فيجلس إليهم ويطايبهم، ويسمع منهم، ويستمعون إليه، قد يتساءل المرء:
أهذا حقا هو الذي احتشدت الأمة بقضها وقضيضها خلف جثمانه! أهذا حقا هو الذي كان بالأمس يحمل اللحم بيده! أهذا حقا هو الذي كان يمشي وحيدا في الشارع، ويجلس على الحصير مع البائس والفقير! نعم هو هو!
وهذا الرسول الأعظم الذي قرن اسمه باسم الله فيه الصلاة، وعلى المنابر والمآذن، ودانت بأقواله ملايين الملايين في مشارق الأرض ومغاربها هو الذي كان يخصف نعله، ويرقع ثوبه بيده ويعقل البعير، ويقطع اللحم، ويحلب الشاة، ويطحن مع الخادم، ويجلس على الأرض مع الأسود والأبيض، وهكذا كان الرسول الأعظم، وهكذا اقتدى به سليلة المحسن الكبير، وما هذا الاحتقار للمادة إلا مظهر الكمال، والاعتداد بسلامة النفس، الاعتداد بالعلم والنزاهة والعمل والاخلاص وحيثما وجدت الترف والزينة وجدت الاستغلال والخيانة، وحيثما وجدت التواضع وجدت الحق والصدق.
كان مسجد الرسول الأعظم في عهده وعهد الخلفاء الراشدين هو البرلمان والسراي الكبير وقصر العدل، ولم يكن هذا الجامع سوى قليل من الطين وسعف النخل ولكن منه انبعثت القوة التي حطمت تاج كسرى وقيصر، ومنه شع النور الذي ملأ الآفاق والأكوان، وبه سادت الفضيلة على الرذيلة، وتغلب الضعيف المحق على القوي المبطل. أما القصور الشامخة أما ناطحات السحاب فأساسها البغي والاستثمار وحيطانها التحاسد والتباغض، وسقفها الطمح والجشع، وأثاثها العجب والرياء، من سكنها أغوته، ومن اغتر بها أردته، والسلام على أمير المؤمنين حيث وصف المخلصين " عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم " والعكس بالعكس.
أنكر أهل الجاهلية الرسول الأعظم، لأنه يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، ولا يملك كنزا ولا بستانا أهذا الذي بعثه الله رسولا؟ " وقالوا ما لهذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة " ولو كان محمد ص في هذا العصر لقال له البعض: كيف تكون نبيا، وأنت لا تملك سيارة!.
وما تجلت هيبة الحق في شئ، كما تجلت في حياة متواضعة وزهد في