فارتفعت، وتحقق الأمن، وأقام للحجاج السواقي في الطريق، واحتفر لهم الآبار، واستفاض الينابيع، وأدار السور على مدينة الرسول، وأمر بعمارة منازل بغداد وأسواقها. وابتدأ بالمساجد الجامعة، وكانت في نهاية الخراب، وهدم ما كان مستهدما بنيانها وأعادها جديدة قوية، والزم أرباب العقارات بالعمارة، فمن قصرت يده أقرضه من بيت المال (بنك التسليف للإنشاء والتعمير). وفي عهده امتلأت الخرابات بالزهر والخضر والعمارة بعد أن كانت مأوى الكلاب، ومطارح الجيف والأقذار، وجلبت إليها الغروس من فارس وسائر البلاد.
وكانت الأنهار ببغداد قد دفنت مجاريها، وعفيت رسومها، فأمر بحفرها من جديد، وأقام القناطر والجسور، وعملت عملا محكما، وحضر كثيرا من أهل البادية، فزرعوا وعمروا البرية، ومع هذا لم تكن العراق مركز الدولة، بل كان مركزها في فارس، وبنى سوقا للبزازين (تجار الأقمشة) وكان ينقل إلى بلاده ما لا يوجد فيها من الأصناف، وشيد مارستانا كبيرا ببغداد، وأمر بإدرار الأرزاق على قوام المساجد والمؤذنين وأئمة الصلاة، والقراء، وإقامة الجرايات لمن يأوي إليها من الغرباء والضعفاء، وتجاوزت صدقاته أهل الإسلام إلى أهل الذمة، وأذن للوزير في عمارة البيع لليهود، والأديرة للنصارى، وإعطاء الأموال لكل محتاج، وإن لم يكن مسلما.
وكان يتصدق كل جمعة بعشرة آلاف درهم على الضعفاء والأرامل، ويصرف كل سنة ثلاثة آلاف دينار ثمن أحذية للحفاة من الحجاج، وعشرين ألف درهم كل شهر لتكفين الموتى، واستحدث ثلاثة آلاف مسجد وخان للغرباء، ولم يمر بماء جار إلا بنى عنده قرية، وكان ينفق على أهل مكة والمدينة وطرقهما ومصالحهما مائة ألف دينار كل سنة، وكان يبذل مالا كثيرا على عمارة المصانع، وتنقية الآبار، ويعطي سكان المنازل التي في الطرقات، ليقدموا العلف لدواب المسافرين.
وكان يحب العلم والعلماء، ويجري الأرزاق على الفقهاء والمحدثين والمتكلمين، والمفسرين والنحاة والشعراء، والنسابين والأطباء، والحساب والمهندسين، وأفرد لأهل الاختصاص من العلماء والحكماء موضعا يقرب من مجلسه، وأنشأ