وانبرت السيدة بكل خضوع وتقدير فسمحت لضيفها الكبير بالدخول إلى منزلها، وقد حازت الشرف والمجد فقد آوت سليل هاشم، وسفير ريحانة رسول الله (ص) وأدخلته في بيت في دارها غير البيت الذي كانت تأوي إليه، وجاءته بالضياء والطعام، فأبى أن يأكل، فقد مزق الأسى قلبه الشريف، وأيقن بالرزء القاصم، وتمثلت أمامه الاحداث الرهيبة التي سيواجهها، وكان أكثر ما يفكر به كتابه للحسين بالقدوم إلى الكوفة.
ولم يمض قليل من الوقت حتى جاء بلال ابن السيدة طوعة، فرأى أمه تكثر الدخول والخروج إلى ذلك البيت لتقوم برعاية ضيفها، فأنكر عليها ذلك، واستراب منه، فسألها عنه، فأنكرته فألح عليها فأخبرته بالامر بعد أن أخذت عليه العهود والمواثيق بكتمان الامر.. وطارت نفس الخبيث فرحا وسرورا، وقد أنفق ليله ساهرا يترقب بفارغ الصبر انبثاق نور الصبح ليخبر السلطة بمقام مسلم عندهم.. وقد تنكر هذا الخبيث للأخلاق العربية التي تلزم بقرى الضيف وحمايته، فقد كان هذا الخلق سائدا حتى في العصر الجاهلي.. وانا لنتخذ من هذه البادرة مقياسا عاما وشاملا لانهيار القيم الأخلاقية والانسانية في ذلك المجتمع الذي تنكر لجميع العادات والقيم العربية.
وعلى أي حال فقد طوى مسلم ليلته حزينا، قد ساورته الهموم، وتوسد الأرق، وكان فيما يقول المؤرخون قد قضى شطرا من الليل في عبادة الله ما بين الصلاة وقراءة القرآن، وقد خفق في بعض الليل فرأى عمه أمير المؤمنين (ع) فأخبره بسرعة اللحاق به فأيقن عند ذلك بدنو الاجل المحتوم منه.