ولا يصدقه آخرون ويستعملون ضربا من التورية، وليس ذلك إلا لأن من صدق لم يخف على نفسه ومن جرى مجرى نفسه، ومن ورى فلانه خاف على نفسه، وغلب في ظنه وقوع الضرر به متى صدق فيما سئل عنه، وليس يجب أن يستوي حال الجميع، وأن يظهر لكل أحد السبب في التقية ممن اتقى مما ذكرناه بعينه حتى يقع الإشارة إليه على سبيل التفصيل، وحتى يجري مجرى العرض على السيف في الملأ من الناس، بل ربما كان ظاهرا كذلك وربما كان خافيا.
فإن قيل: مع تجويز التقية على الإمام كيف السبيل إلى العلم بمذاهبه واعتقاده، وكيف يتخلص لنا ما يفتي به على سبيل التقية من غيره؟.
قلنا: أول ما نقوله في ذلك أن الإمام لا يجوز أن يتقي فيما لا يعلم إلا من جهته، ولا الطريق إليه إلا من ناحيته وقوله، وإنما يجوز التقية إليه فيما قد بان بالحجج والبينات، ونصبت عليه الدلالات حتى لا تكون تقيته فيه مزيلة لطريق إصابة الحق وموقعة للشبهة، ثم لا يتقي في شئ الا ويدل على خروجه منه مخرج التقية، اما لما يصاحب كلامه أو يتقدمه أو يتأخر عنه، ومن اعتبر جميع ما روي عن أئمتنا (عليهم السلام) على سبيل التقية وجده لا يعرى مما ذكرناه.
ثم إن التقية إنما تكون من العدو دون الولي، ومن المتهم دون الموثوق به، فما يصدر منهم إلى أوليائهم وشيعتهم، ونصائحهم في غير مجالس الخوف يرتفع الشك في أنه على غير جهة التقية، وما يفتون به العدو أو يمتحنون به في مجالس الجور يجوز أن يكون على سبيل التقية كما يجوز أن يكون على غيرها، ثم يقلب هذا السؤال على المخالف فيقال له: إذا أجزت على جميع الناس التقية عند الخوف الشديد وما يجري مجراه، فمن أين تعرف مذاهبهم واعتقادهم؟ وكيف تفصل بين ما يفتي به المفتي منهم على سبيل التقية، وبين ما يفتي به وهو مذهب له يعتقد بصحته؟ فلابد من الرجوع إلى ما ذكرنا.
فإن قال: أعرف مذهب غيري وإن أجزت عليه التقية بأن يضطرني إلى اعتقاده، وعند التقية لا يكون ذلك.