بر ثلاث ليال تباعا، وكان فراشه من أدم وحشوه ليف، وربما اعتقل الشاة فيحلبها، ورقع ثوبه، وخصف نعله بيده الكريمة، صلوات الله وسلامه عليه، ومات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند يهودي على طعام اشتراه لأهله، هذا وكم آثر بآلاف مؤلفة والإبل والشاء والغنائم والهدايا، على نفسه وأهله للفقراء والمحاويج والأرامل والأيتام والأسرى والمساكين * وذكر أبو نعيم في مقابلة تبشير الملائكة لمريم الصديقة بوضع عيسى ما بشرت به آمنة أم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حملت به في منامها، وما قيل لها: إنك قد حملت بسيد هذه الأمة فسميه محمدا، وقد بسطنا ذلك في المولد كما تقدم * وقد أورد الحافظ أبو نعيم هاهنا حديثا غريبا مطولا بالمولد أحببنا أن نسوقه ليكون الختام نظير الافتتاح، وبالله المستعان، وعليه التكلان ولله الحمد * فقال: حدثنا سليمان بن أحمد، حدثنا حفص بن عمرو بن الصباح، حدثنا يحيى بن عبد الله البابلي، أنا أبو بكر بن أبي مريم عن سعيد بن عمر الأنصاري عن أبيه. قال: قال ابن عباس: فكان من دلالات حمل محمد صلى الله عليه وسلم أن كل دابة كانت لقريش نطقت تلك الليلة: قد حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم ورب الكعبة، وهو أمان الدنيا وسراج أهلها، ولم يبق كاهن في قريش ولا قبيلة من قبائل العرب إلا حجبت عن صاحبتها، وانتزع علم الكهنة منها، ولم يبق سرير ملك من ملوك الدنيا إلا أصبح منكوسا، والملك مخرسا لا ينطق يومه لذلك، وفرت وحوش المشرق إلى وحوش المغرب بالبشارات، وكذلك أهل البحار بشر بعضهم بعضا، وفي كل شهر من شهوره نداء في الأرض ونداء في السماوات: أبشروا فقد آن لأبي القاسم أن يخرج إلى الأرض ميمونا مباركا قال: وبقي في بطن أمه تسعة أشهر، وهلك أبوه عبد الله وهو في بطن أمه، فقالت الملائكة: إلهنا وسيدنا، بقي نبيك هذا يتيما، فقال الله تعالى للملائكة: أنا له ولي وحافظ ونصير، فتبركوا بمولده ميمونا مباركا. وفتح الله لمولده أبواب السماء وجناته، وكانت آمنة تحدث عن نفسها وتقول: أتى لي آت حين مر لي من حمله ستة أشهر فوكزني برجله في المنام وقال: يا آمنة إنك حملت بخير العالمين طرا، فإذا ولدتيه فسميه محمدا أو النبي، شأنك. قال: وكانت تحدث عن نفسها وتقول: لقد أخذني ما يأخذ النساء ولم يعلم بي أحد من القوم، ذكر ولا أنثى، وإني لوحيدة في المنزل وعبد المطلب في طوافة، قالت: فسمعت وجبة شديدة، وأمرا عظيما، فهالني ذلك، وذلك يوم الاثنين، ورأيت كأن جناح طير أبيض قد مسح على فؤادي فذهب كل رعب وكل فزع ووجل كنت أجد، ثم التفت فإذا أنا بشربة بيضاء ظننتها لبنا، وكنت عطشانة، فتناولتها فشربتها فأصابني نور عال، ثم رأيت نسوة كالنخل الطوال، كأنهن من بنات عبد المطلب يحدقن بي، فبينا أنا أعجب وأقول: وا غوثاه، من أين علمن بي؟
واشتد بي الامر وأنا أسمع الوجبة في كل ساعة أعظم وأهول، وإذا أنا بديباج أبيض قد مد بين الأرض، وإذا قائل يقول: خذوه عن أعين الناس، قالت: رأيت رجالا وقفوا في الهواء بأيديهم أباريق فضة وأنا يرشح مني عرق كالجمان، أطيب ريحا من المسك الأذفر، وأنا أقول: يا ليت عبد المطلب قد دخل علي، قالت: ورأيت قطعة من الطير قد أقبلت من حيث لا أشعر حتى غطت حجرتي، مناقيرها من الزمرد، وأجنحتها من اليواقيت، فكشف الله لي عن بصيرتي، فأبصرت