ارتكاب المعصية، بل إنهم قادرون على إتيانها، غير أنهم يعفون أنفسهم ويجلونها عن التلوث بها باختيارهم، ويغضون الطرف عنها طوعا، تماما كالطبيب الحاذق الذي لا يتناول مطلقا مادة سمية جدا وهو يعلم الأخطار التي تنجم عن تناولها، ومع أنه قادر على تناولها، إلا أن علومه وإطلاعه ومبادئه الفكرية والروحية تدفعه إلى الامتناع إراديا واختيارا عن هذا العمل.
ويجب التذكير بهذه المسألة، وهي أن هذه التقوى موهبة خاصة منحت للأنبياء لا للآخرين، لكن الله سبحانه قد منحهم إياها للمسؤوليات الثقيلة الخطيرة الملقاة على عاتقهم في قيادة الناس وإرشادهم، وبناء على هذا فإنه امتياز يعود نفعه على الجميع، وهذه عين العدالة، تماما كالامتياز الخاص الذي منحه الله لطبقات العين وأغشيتها الرقيقة والحساسة جدا، والتي يستفيد منها جميع البدن.
إضافة إلى أن الأنبياء تعظم مسؤولياتهم وواجباتهم بنفس المقدار الذي يتمتعون بهذا المواهب الإلهية والامتيازات، فإن ترك الأولى من قبلهم يعادل ذنبا كبيرا يصدر من الناس العاديين، وهذا معيار وتشخيص لخط العدالة.
والنتيجة أن هذه الإرادة إرادة تكوينية في حدود المقتضى - وليست علة تامة - وهي في الوقت نفسه لا توجب الجبر ولا تسلب الاختيار والإرادة الإنسانية.
3 4 - جاهلية القرن العشرين!
مرت الإشارة إلى أن جمعا من المفسرين تورطوا في تفسير (الجاهلية الأولى) وكأنهم لم يقدروا أن يصدقوا ظهور جاهلية أخرى في العالم بعد ظهور الإسلام، وأن جاهلية العرب قبل الإسلام ضئيلة تجاه الجاهلية الجديدة، إلا أن هذا الأمر قد تجلى للجميع اليوم، حيث نرى مظاهر جاهلية القرن العشرين المرعبة، ويجب أن تعد تلك إحدى تنبؤات القرآن الإعجازية.
إذا كان العرب في زمان الجاهلية يغيرون ويحاربون، وإذا كان سوق عكاظ -