يومنا هذا، ولم يرتابوا في استناد المعلولات التي معها عللها الطبيعية الممكنة إلى علة واجبة، فليس استنادهم إلى العلة الواجبة لأجل الجهل بالعلة الطبيعية، وفي المعلولات المجهولة العلل كما يتوهمه هؤلاء، وهذا ثانيا.
ثم إن القرآن المثبت لتوحيد الاله إنما يثبته مع تقرير جريان قانون العلية العام بين أجزاء العالم، وتسليم استناد كل حادث إلى علة خاصة به، وتصديق ما يحكم به العقل السليم في ذلك، فإنه يسند الافعال الطبيعية إلى موضوعاتها وفواعلها الطبيعية وينسب إلى الانسان أفعاله الاختيارية في آيات كثيرة لا حاجة إلى نقلها، ثم ينسب الجميع إلى الله سبحانه من غير استثناء، قال تعالى: (الله خالق كل شئ) الزمر - 62، وقال تعالى: (ذلكم الله ربكم خالق كل شئ لا إله إلا هو) المؤمن - 62، وقال تعالى: (ألا له الخلق والامر) الأعراف - 54، وقال تعالى: (له ما في السماوات وما في الأرض) طه - 5، فكل ما صدق عليه اسم شئ فهو مخلوق لله منسوب إليه على ما يليق بساحة قدسه وكماله، وقد جمع في آيات أخر بين الاثباتين جميعا فنسب الفعل إلى فاعله وإلى الله سبحانه معا كقوله تعالى: (والله خلقكم وما تعملون) الصافات - 96، فنسب أعمال الناس إليهم ونسب خلق أنفسهم وأعمالهم إليه تعالى، وقال تعالى: (وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى) الأنفال - 17، فنسب الرمي إلى رسول الله ونفاه عنه ونسبه إلى الله تعالى إلى غير ذلك.
ومن هذا الباب آيات أخر تجمع بين الاثباتين بطريق عام كقوله تعالى: (وخلق كل شئ فقدره تقديرا) الفرقان - 2، وقال تعالى: (إنا كل شئ خلقناه بقدر - إلى أن قال - وكل صغير وكبير مستطر) القمر - 53، وقال تعالى: (قد جعل الله لكل شئ قدرا) الطلاق - 3، وقال تعالى: (وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) الحجر - 21، فإن تقدير كل شئ هو جعله محدودا بحدود العلل المادية والشرائط الزمانية والمكانية.
وبالجملة فكون إثبات وجود الاله الواحد في القرآن على أساس إثبات العلية والمعلولية بين جميع أجزاء العالم، ثم استناد الجميع إلى الاله الفاطر الصانع للكل مما لا يعتريه شك ولا ريب لا كما يزعمه هؤلاء من إسناد البعض إلى الله وإسناد الآخر إلى علله المادية المعلومة، وهذا ثالثا.