وقد تكرر في كلامه تعالى هذا التعجيز كقوله تعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا) الاسراء - 88، وقوله تعالى: (أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين) هود - 13. وعلى هذا فالضمير في مثله عائد إلى قوله تعالى: مما نزلنا، ويكون تعجيزا بالقرآن نفسه وبداعة أسلوبه وبيانه.
ويمكن أن يكون الضمير راجعا إلى قوله: عبدنا، فيكون تعجيزا بالقرآن من حيث إن الذي جاء به رجل أمي لم يتعلم من معلم ولم يتلق شيئا من هذه المعارف الغالية العالية والبيانات البديعة المتقنة من أحد من الناس فيكون الآية في مساق قوله تعالى:
(قل لو شاء الله ما تلوته عليكم ولا أدريكم به فقد لبثت فيكم عمرا من قبله أفلا تعقلون) يونس - 16، وقد ورد التفسيران معا في بعض الاخبار.
واعلم: ان هذه الآية كنظائرها تعطي إعجاز أقصر سورة من القرآن كسورة الكوثر وسورة العصر مثلا، وما ربما يحتمل من رجوع ضمير مثله إلى نفس السورة كسورة البقرة أو سورة يونس مثلا يأباه الفهم المستأنس بأساليب الكلام إذ من يرمي القرآن بأنه افتراء على الله تعالى إنما يرميه جمعا ولا يخصص قوله ذاك بسورة دون سورة، فلا معنى لرده بالتحدي بسورة البقرة أو بسورة يونس لرجوع المعنى حينئذ إلى مثل قولنا: وان كنتم في ريب من سورة الكوثر أو الاخلاص مثلا فأتوا بسورة مثل سورة يونس وهم بين الاستهجان هذا.
(الاعجاز وماهيته) اعلم: ان دعوى القرآن أنها آية معجزة بهذا التحدي الذي أبدتها هذه الآية تنحل بحسب الحقيقة إلى دعويين، وهما دعوى ثبوت أصل الاعجاز وخرق العادة الجارية ودعوى ان القران مصداق من مصاديق الاعجاز ومعلوم ان الدعوى الثانية تثبت بثبوتها الدعوى الأولى، والقرآن أيضا يكتفى بهذا النمط من البيان ويتحدى بنفسه فيستنتج به كلتا النتيجتين غير أنه يبقى الكلام على كيفية تحقق الاعجاز مع