(بيان) الآيات مترتبة متسقة منتظمة في سياقها على ما يعطيه التدبر فيها وهي تنبئي عن جعل الكعبة قبلة للمسلمين فلا يصغى إلى قول من يقول إن فيها تقدما وتأخرا أو إن فيها ناسخا ومنسوخا، وربما رووا فيها شيئا من الروايات، ولا يعبا بشئ منها بعد مخالفتها لظاهر الآيات.
قوله تعالى: سيقول السفهاء من الناس ما وليهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، هذا تمهيد ثانيا لما سيأمر تعالى به من اتخاذ الكعبة قبلة وتعليم للجواب عما سيعترض به السفهاء من الناس وهم اليهود تعصبا لقبلتهم التي هي بيت المقدس ومشركو العرب الراصدون لكل أمر جديد يحتمل الجدال والخصام، وقد مهد لذلك اولا بما ذكره الله تعالى من قصص إبراهيم وأنواع كرامته على الله سبحانه وكرامة ابنه إسماعيل ودعوتهما للكعبة ومكة وللنبي والأمة المسلمة وبنائهما البيت والامر بتطهيره للعبادة، ومن المعلوم ان تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة من أعظم الحوادث الدينية وأهم التشريعات التي قوبل به الناس بعد هجرة النبي إلى المدينة وأخذ الاسلام في تحقيق أصوله ونشر معارفه وبث حقائقه، فما كانت اليهود وغيرهم تسكت وتستريح في مقابل هذا التشريع، لانهم كانوا يرون انه يبطل واحدا من أعظم مفاخرهم الدينية وهو القبلة واتباع غيرهم لهم فيها وتقدمهم على من دونهم في هذا الشعار الديني، على أن ذلك تقدم باهر في دين المسلمين، لجمعه وجوههم في عباداتهم ومناسكهم الدينية إلى نقطة واحدة يخلصهم من تفرق الوجوه في الظاهر وشتات الكلمة في الباطن واستقبال الكعبة أشد تأثيرا واقوى من أمثال الطهارة والدعاء وغيرهما في نفوس المسلمين، عند اليهود ومشركي العرب وخاصة عند اليهود كما يشهد به قصصهم المقتصة في القرآن، فقد كانوا أمة لا يرون لغير المحسوس من عالم الطبيعة أصالة ولا لغير الحس وقعا، إذا جائهم حكم من احكام الله معنوي قبلوه من غير تكلم عليه وإذا جاءهم أمر من ربهم صوري متعلق بالمحسوس من الطبيعة كالقتال والهجرة والسجدة وخضوع القول وغيرها قابلوه بالانكار وقاوموا عليه ودونه أشد المقاومة.