بين الفعلين والترجيحين أصلا غير أن أحد الترجيحين مستند إلى إرادة الجبار.
فان قلت: كفى فرقا بين الفعلين أن الفعل الاختياري يوافق في صدوره مصلحة عند الفاعل وهو فعل يترتب عليه المدح والذم ويتبعه الثواب والعقاب إلى غير ذلك من الآثار، وهذا بخلاف الفعل الاجباري فإنه لا يترتب عليه شئ من ذلك.
قلت: الامر على ما ذكر، غير أن هذه الآثار انما هي بحسب اعتبار العقلاء على ما يوافق الكمال الأخير الاجتماعي، فهي آثار اعتبارية غير حقيقية، فليس البحث عن الجبر والاختيار بحثا فلسفيا لان البحث الفلسفي انما ينال الموجودات الخارجية وآثارها العينية، وأما الأمور المنتهية إلى أنحاء الاعتبارات العقلائية، فلا ينالها بحث فلسفي ولا يشملها برهان البتة، وان كانت معتبرة في بابها، مؤثرة أثرها، فالواجب، أن نرد البحث المزبور من طريق آخر، فنقول: لا شك أن كل ممكن حادث مفتقر إلى علة، والحكم ثابت من طريق البرهان، ولا شك أيضا أن الشئ ما لم يجب لم يوجد إذ الشئ ما لم يتعين طرف وجوده بمعين كان نسبته إلى الوجود والعدم بالسوية، ولو وجد الشئ وهو كذلك لم يكن مفتقرا إلى علة وهف، فإذا فرض وجود الشئ كان متصفا بالضرورة ما دام موجودا، وهذه الضرورة انما اكتسبها من ناحية العلة، فإذا أخذنا دار الوجود بأجمعها كانت كسلسلة مؤلفة من حلقات مترتبة متوالية كلها واجبة الوجود، ولا موقع لأمر ممكن الوجود في هذه السلسلة.
ثم نقول: هذه النسبة الوجوبية انما تنشأ عن نسبة المعلول إلى علتها التامة البسيطة أو المركبة من أمور كثيرة كالعلل الأربع والشرائط والمعدات وأما إذا نسب المعلول المذكور إلى بعض أجزاء العلة أو إلى شئ آخر لو فرض كانت النسبة نسبة الامكان بالضرورة، بداهة أنه لو كانت بالضرورة كانت العلة التامة وجودها مستغنى عنه وهي علة تامة هف، ففي عالمنا الطبيعي نظامان: نظام الضرورة ونظام الامكان، فنظام الضرورة منبسط على العلل التامة ومعلولاتها ولا يوجد بين أجزاء هذا النظام أمر إمكاني البتة لا ذات ولا فعل ذات ونظام الامكان منبسط على المادة والصور التي في قوة المادة التلبس بها والآثار التي يمكنها أن تقبلها، فإذا فرضت فعلا من أفعال الانسان الاختيارية ونسبتها إلى تمام علتها، وهي الانسان والعلم والإرادة