أن ما أخلصتم لله من أعمالكم فلطاعة أتيتموها، وحظ ظفرتم به، وضرائب أديتموها، وسلف قدمتموه من إيام فانية لأخرى باقية لحين فقركم وحاجتكم، فاعتبروا عباد الله بمن مات منكم، وتفكروا فيمن كان قبلكم، أين كانوا أمس وأين هم اليوم! أين الجبارون؟
أين الذين كان لهم ذكر القتال والغلبة في مواطن الحرب؟ قد تضعضع بهم الدهر، وصاروا رميما، قد تركت عليهم القالات الخبيثات، وإنما الخبيثات للخبيثين والخبيثون للخبيثات.
وأين الملوك الذين أثاروا الأرض وعمروها! قد بعدوا بسيئ ذكرهم، وبقى ذكرهم وصاروا كلا شئ ألا إن الله قد أبقى عليهم التبعات، وقطع عنهم الشهوات ومضوا والأعمال أعمالهم، والدنيا دنيا غيرهم، وبقينا خلفا من بعدهم فإن نحن اعتبرنا بهم نجونا، وإن اغتررنا كنا مثلهم، أين الوضاء (١) الحسنة وجوههم، المعجبون بشبابهم!
صاروا ترابا، وصار ما فرطوا فيه حسرة عليهم، أين الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط، وجعلوا فيها العجائب، وتركوها لمن خلفهم! فتلك مساكنهم خاوية، وهم في ظلم القبور، ﴿هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا﴾ (2). أين من تعرفون من آبائكم وإخوانكم! قد انتهت بهم آجالهم فوردوا على ما قدموا عليه، وأقاموا للشقوة وللسعادة. ألا إن الله لا شريك له، ليس بينه وبين أحد من خلقه سبب يعطيه به خيرا، ولا يصرف عنه به شرا إلا بطاعته واتباع أمره واعلموا أنكم عباد مدينون، وأن ما عنده لا يدر ك إلا بتقواه وعبادته. ألا وإنه لا خير بخير بعده النار ولا شر بشر بعد الجنة (3).
فهذه خطبتا أبى بكر يوم السقيفة، واليوم الذي يليه، إنما قال: " إن لي شيطانا يعتريني، وأراد بالشيطان الغضب، ولم يرد أن له شيطانا من مردة الجن يعتريه إذا .