المعونة على نفسها مثل الذي بالشمس للابصار، على استثباتها والاستبانة لها، فمن صح بصر نفسه، ثم وصل بما صح منه إلى ما يرد عليه من الحكمة، أو رابه شئ من الأمور ثم يمنعه ما فاته منها ان يسمى حكيما، ويلحقه ما ظفر به بالحكماء، كما لا يمنع البصر ما فاته من المبصرات من أن يدعى بصيرا ويلحقه بالبصراء، فإذا صح لك من عقلك ما تعرف به وجوه الحكمة، وترغب به في الخير، وتميز بينه وبين الشر، فليس بشهادة الناس ولا بما يسمونه حكمة تكون حكيما، ولا بعقولهم تعد من العقلاء، ولا بسائر ما يثنون عليهم من ودهم ونصائحهم تكون فاضلا، وإنما الناس رجلان: رجل لا خير فيه، جاهل بحقيقة الحكمة، فليس ملتفتا إليه، ورجل من أهل الحكمة لا يمنعك مما سهل الله لك به سبيل الخير، بل يبذله لك، لأنه ليس يباع بثمن، ولا يمنع من طالب، ولا يكتتم كاكتتام الذنوب، واعلم أن العقل متوجه أينما وجه، وله غناء أينما صرف، وبعض مصارفه أنفع من بعض، فإذا صرف إلى الدين أحكمه وتفقه فيه، وإذا صرف إلى الدنيا أغني بها واحتال فيها فليس مستودعا شيئا الا حفظه، ولا مصبوغا بصبغ الا قبله، ولا محملا رشدا ولاغيا الا تحمله، فإياك ان تعدله عن رشد، أو تصرفه إلى غي عامدا أو مخطئا، فإنك لست محكما به شيئا من أمر دنياك الا أضعت به أكثر منه من امر دينك، ولا حافظا به شيئا من الأدب غير النافع الا أضعت به أكثر منه من نافع الأدب، غير انك تجمع إلى ضياع العناية بما لا ينفع استيجاب التبعة فيما اضعت، وليس شئ من امر الدنيا صرفت إليه عقلك فاحكمته الا سيعود محكمه عن وشيك ضائعا، وصالحه فاسدا لا يصحبك شئ منه في آخرتك، ولا يوثق ببقائه لك في دنياك، وإنما وهن امر صاحب الدنيا وبطل سعيه، لأنه بنى في غيره داره، وغرس في غير أرضه، فلم يكن له - حين جاء من يشخصه - الا ان ينقضه ويدعه لغيره، ومن أخطاه العقل ظهر
(٣٤٨)