وهذا استخراج لم نسبق إليه وبيان لم يعثر غيرنا عليه، على أن هذا الحديث لو قطعنا النظر عما ذكرناه، وحملناه على ظاهره، لكان معارضا بما سبق من حديث جبرئيل للنبي صلى الله عليه وآله حيث سأله عن الايمان فقال: أن تؤمن بالله ورسله واليوم الآخر أي تصدق بذلك، ولو بقي من حقيقته شئ سوى ما ذكره له لبينه له، فدل على أن حقيقته تتم بما أجابه بالقياس إلى كل مكلف، أما للنبي صلى الله عليه وآله فلانه المجاب به حين سأله، وأما لغيره فللتأسي به، وطريق الجمع بينهما حينئذ حمل ما في حديث الجوارح من الزيادة عن ذلك على مرتبة الكمال كما بيناه سابقا.
وههنا بحث وهو أن حقيقة الايمان لما كانت من الأمور الاعتبارية للشارع كان تحديدها إنما هو بجعل الشارع وتقريره لها، فلا يعلم حينئذ مقداره وحقيقته إلا منه، وحيث رأينا ما وصل إلينا من خطاباته تعالى غير قاطع في الدلالة على تعيين قدر مخصوص من أنواع الاعتقاد أو الأعمال، بحيث تشترك الكل في التكليف به، من غير تفاوت بين قوي الادراك وضعيفه، بل رأيناها متفاوتة في الدلالة على ذلك، يعلم ذلك من تتبع آيات الكتاب العزيز والسنة المطهرة، وقد سبق نبذة من ذلك، ولا يجوز الاختلاف في خطاباته ولا أن يكلف عباده بأمر لا يبين لهم مراده تعالى منه، لاستحالة تكليف مالا يطاق، وإخلاله باللطف، ورأينا الأكثر ورودا في كتابه بذلك الامر بالاعتقاد القلبي من غير تعيين مقدار مخصوص منه بقاطع يوقفنا على اعتباره، أمكن حينئذ أن يكون مراده منه مطلق الاعتقاد العلمي سواء كان علم الطمأنينة، أو علم اليقين، أو حق اليقين، أو عين اليقين، فتكون حقيقة واحدة وهو الاذعان القلبي والاعتقاد العلمي والتفاوت بالزيادة والنقصان إنما هو في أفراد تلك الحقيقة ومن مشخصاتها، فلا يكون داخلا في الحقيقة المذكورة.
وما ورد مما ظاهره الاختلاف في الدلالة على مراد الشارع منه يمكن تنزيله على تفاوت الافراد المذكورة كعلم الطمأنينة، وعلم اليقين، وغيرهما، فيكون كل واحد منها مرادا وكافيا في امتثال أمر الشارع، وهذا هو المناسب لسهولة التكليف واختلاف طبقات المكلفين في الادراك كما لا يخفى.