فترة تعد من أبرز الفترات التأريخية وأدقها، حيث انسحب ظل الدولة العباسية عن معظم بقاع الوطن الاسلامي، ولم يبق للخليفة العباسي آنذاك إلا بغداد وأعمالها، والتي كانت للبويهيين السيطرة التامة عليها، حيث فسحوا المجال أمام الحريات المذهبية والمقالات الدينية فاحتدم الصراع الفكري بين رجال المذاهب بشكل ليس له مثيل، حيث كان على أشده بين الأشاعرة والمعتزلة، وكان لكل منهم زعماء كلاميون وعلماء مفكرون، وكانت الشيعة تؤلف القوة الثالثة التي يتزعمها الشيخ المفيد رحمه الله، والذي استطاع - ومن خلال براعته في صناعة الكلام، وقوة حجيته، وقدرته الكبيرة على الإحاطة بالكثير من العلوم المختلفة - أن يفند ويضعف آراء الفريقين، ويثبت بطلانها.
كما إن الشيخ رحمه الله يعد من أوائل الذين لم يتوقفوا على حرفية النصوص والأحاديث، بل بالاعتماد على منطق الفكر المجرد والحر المبتني على عقائد رصينة وقوية، ويشير إلى ذلك بوضوح قوله في شرحه لعقائد الصدوق رحمه الله في باب النفوس والأرواح: " لكن أصحابنا المتعلقين بالأخبار أصحاب سلامة، وبعد ذهن، وقلة فطنة، يمرون على وجوههم فيما يسمعون من الأحاديث، ولا ينظرون في سندها، ولا يفرقون بين حقها وباطلها، ولا يفهمون ما يدخل عليهم في إثباتها ولا يحصلون معاني ما يطلقون منها ".
ومن هنا فلا يسع المرء وهو يتأمل ويطالع صفحات كتاب الارشاد للشيخ المفيد رحمه الله إلا أن ترتسم في مخيلته جوانب من الابعاد الرائعة لذهنية مؤلفه، وجهده في إخراج صورة تمثل البناء الأساسي الرصين لما يسمى بعلم التاريخ، رحم الله الشيخ المفيد، وأسكنه في فسيح جنانه.