لأنه يديم العتيد ويجلب المزيد ويستحق الثواب ومن كفر بما مر فلا يضر الله شيئا فإن ربي غني عن عبادة العابدين وشكر الشاكرين، كريم بالإفضال والإحسان وترك مؤاخذه العبد بالإساءة والكفران لعله يتوب ويصلح حاله في مستقبل الأزمان ومن ها هنا ظهر أن ترك الشكر على النعمة كفر.
(وقال: (لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد)) الشكر هو الاعتراف بالنعمة ظاهرة كانت أو باطنة، جلية كانت أو خفية، والإقرار بها للمنعم والإتيان بالأعمال الصالحة المطلوبة له والامتثال بأوامره ونواهيه والاجتناب عن معاصيه. وكفر النعم ضد للشكر بهذا المعنى وهو سبب لزوال النعمة وعدم الزيادة وتحقق العقوبة في الدنيا والآخرة ولذلك قال الله عز وجل على سبيل التأكد من وجوه شتى: (ولئن كفرتم إن عذابي لشديد).
(وقال: (فأذكروني أذكركم)) أي فاذكروني ظاهرا باللسان وباطنا بالجنان عند الأوامر والنواهي أذكركم في ملأ المقربين بالخير والصلاح أو في القيامة إذا بلغت القلوب الحناجر من شدائدها أو في حال الموت أو في البرزخ أو في جميع الأحوال كما دلت عليه صيغة الاستقبال.
والوجه الرابع من الكفر ترك ما أمر الله عز وجل به وهو قول الله عز وجل: (وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم)) قيل: أخذ العهد منهم بأن لا يقتلوا أنفسهم كما يفعله من يصعب عليه الزمان للتخلص من الصعوبة وكما يفعله بعض أهل الهند للتخلص من عالم الفساد واللحوق بعالم النور وقيل بأن لا يفعلوا ما يوجب قتلهم وإخراجهم من ديارهم وقيل بأن لا يقتل بعضهم بعضا ولا يخرج بعضهم بعضا عن وطنه وإنما جعل قتل الرجل وإخراجه غيره قتل نفسه وإخراجها لاتصاله به نسبا أو دينا ولأنه يقتص منه فكأنه قتل نفسه وقيل بأن لا يفعلوا ما يصرفهم عن الحياة الأبدية التي هي الحياة الحقيقية وما يمنعهم عن الجنة التي هي دار القرار فإنه الجلاء الحقيقي.
(ثم أقررتم وأنتم تشهدون) أي أقررتم بالميثاق واعترفتم على أنفسكم بلزومه وأنتم تشهدون عليها وهذا تأكيد كقولك: أقر فلان على نفسه بكذا شاهدا عليها واعترفتم على قبوله وشهد بعضكم على بعض بذلك أو أنتم تشهدون اليوم يا معشر اليهود على اقرار أسلافكم بهذا الميثاق فيكون إسناد الإقرار إلى المخاطبين مجازيا.
(ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم) قيل: ثم استبعاد لما أسند إليهم من القتل والاجلاء والعدوان بعد الميثاق منهم واقرارهم وشهادتهم وأنتم مبتدأ وهؤلاء خبره والمعنى أنتم بعد ذلك هؤلاء الناقضون الشاهدون يعني أنتم قوم آخرون غير هؤلاء الشاهدين