فكما امتنع العقل عن الحكم بصحتهما كذلك لا يحكم ببطلان كل منهما، بل لا محيص عن الأخذ بأحدهما وطرح الآخر، إما الجبر وإما التفويض نظير الحركة والسكون، فإن ارتفاعهما عن الجسم محال كاجتماعهما، أو إن هناك واسطة في البين فلا مانع من قبل العقل بثبوت أمر ثالث، وإنما المستحيل في نظره هو الحكم بصحة الجبر والتفويض معا لا يبطلانهما، كما هو الحال في السواد والبياض، فإنهما لا يشغلان معا حيزا واحدا في آن واحد، ولكن لا بأس بارتفاعهما وكون المحل مشغولا بلون ثالث، وهذه الناحية هي التي تهمنا أكثر من جهة تتعلق بهذا الموضوع.
فنقول: إن أئمة الهدى عليهم السلام قد كشفوا لنا عن وجه الحق واهتدينا بكلامهم إلى الحقيقة التي يستصوبها العقل، وهو حاكم بفساد الجبر والتفويض بالمعنى الذي نذكره لهاتين اللفظتين، وصحة أمر بين الأمرين. أما الجبر الذي ينفيه العقل فهو حمل العبد على الفعل والترك بالقسر والغلبة على وجه لا يكون للعبد قدرة التخليص ولا قوة الامتناع والتحصن فإيجاد فعل العبد فيهم كإيجاد الثمرة في الشجرة والجريان في الماء، ولازم هذا القول حذف لفظ الطاعة والعصيان والمشيئة، وكل كلمة تشعر بالاختيار أو يتوقف معناها عليه من جميع اللغات فإنه لا طاعة بإكراه ولا مشيئة مع الجاء، ومن ذهب هذا المذهب أراد أن يثبت لله تعالى القدرة فأثبت له الظلم والسفه والكذب (وليس الله بظلام للعبيد).
وأما التفويض الباطل فهو أن الله تعالى (أوجد العباد وأقدرهم وليس لله تعالى في أعمالهم صنع) وعلى هذا المسلك ينبغي أن يرضى الله تعالى بكل ما يفعله عبده ولا يؤاخذه بشئ مما يفعل، وقد حاول القائل به إثبات العدل لله فعزله عن سلسانه وشاركه في خلقه - يد الله مغلولة غلت أيديهم - وربما يكون لصحة هذا القول وجه، وهو أن العباد قد اجتمعت بأسرها وتجمهرت واتفقت يدا واحدة وتظاهرت على خالقها وأظهرت التمرد والعصيان وطلبوا منه الاستقلال التام ففوض إليهم الأمر وأجراهم على مشيئتهم بعد أن عجز عن تطويعهم.
وإذا كان العقل حاكما بفساد هذا الافراط، وذلك التفريط تعين القول الفصل وهو صحة الأمر بين الأمرين، ولا نقصد منه أن فعل العبد مستند إلى قدرته وقدرة