بذرها في نفسه يد الوراثة، وتأصلت جذورها في أعماق قلبه بتكرار النظر وطول الممارسة لما سطر (الكرام) الكاتبون من أسلافه، وزينها له أساتذته وشيوخه ببركة تلقينهم إياه، وتقليده إياهم وتشعبت فروعها بمعاشرة قومه، وألفة صحبه الذين يقدسون هذه العقيدة، ويرونها أصلا من أصول دينهم الذي يوجب عليهم رعايتها والتعبد بها، ويتحتم على كل واحد منهم أن يصحح عقيدته بكل طريق ولو كان فاسدا في نفس الأمر والواقع، ويبطل ما ينافيها ولو كان حقا، فبينما هو يورد الأدلة ويكر على حجة خصمه فيعارضها بالمثل أو يطعن في صغرى قياسه أو كبراه يستشهد بالأخبار النبوية (الراد على أهل هذه الطريقة كالشاهر سيفه في سبيل الله، وأهلها مجوس هذه الأمة)، إلى غير ذلك.
ونظرا لضيق المقام أعرضنا عن ذكر كلماتهم وبيان مواضع الخلل فيها، على الأخص استدلالهم بالنصوص السمعية فإن المسألة عقلية وليس للسمع أقل مساس فيها، فلا يصح التمسك بظواهر الكتاب والسنة في مثلها إثباتا أو نفيا، فإن المتعين أولا النظر إلى حكم العقل وتشخيصه عما عداه على نحو لا يقع فيه الاشتباه والريب، ثم النظر إلى اللفظ الثابت عن الحكيم، فإن كان موافقا بظاهرة لحكم العقل كان مقررا له، وإلا وجب تأويله بما يوافق العقل، كما هو المعروف من دين الإسلام وضروراته، ومن هنا تعرف محل الخطأ في قول القائلين أن الأحكام العقلية ساقطة عن الاعتبار، إن المتعين حصر المدارك، والأدلة بالسمع فقط مستدلين على ذلك بحكم العقل بصحة الجبر والتفويض معا، مع أن تنافيهما من البديهيات، فمن حكمه بصحة الأمور المتضادة يستكشف سقوطه عن الاعتبار وعدم جواز الاعتماد عليه.
والحق أن أرباب هذه العقيدة هم الساقطون عن الاعتبار لا العقل الذي يكون الإنسان به إنسانا يمتاز عن سائر الحيوانات، فإن الحكم بعدم اجتماع المتنافيين اللذين لا جامع بينهما، ولا وحدة تربطهما من المعلومات البديهية، والمرتكزات الفطرية، وبعد أن كان الجبر والتفويض متعاندين ذاتا فكيف يمكن صدور الحكم من العقل بصحتهما معا، وجزمه بتحقيق كل منهما، وهل هو إلا نظير القطع بالوجود العدم في محل واحد، وهذا أمر لا مرية فيه، وإنما الكلام في أن الجبر والتفويض، هل هما ضدان لا ثالث لهما بمعنى أن الواقع لا يخلو من أحدهما،