البينات، والثاني ما نور الله به قلب المؤمن من العلوم والمعارف، ثم قال: أو أنه تمثيل لما منح الله به عباده من القوة الدراكة الخمس المترتبة التي يناط بها المعاش والمعاد، وهي الحساسة التي تدرك المحسوسات بالحواس الخمس، والخيالية التي تحفظ صور تلك المحسوسات لتعرضها على القوة العقلية متى شاءت، والعقلية التي تدرك الحقائق الكلية، والمفكرة وهي التي تؤلف المعقولات لتستنتج منها علم ما لم يعلم، والقوة القدسية التي يتجلى فيها لوائح الغيب، وأسرار الملكوت المختصة بالأنبياء والأولياء، والمعنية بقوله تعالى: ﴿ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا﴾ (1) بالأشياء الخمسة المذكورة في الآية، وهي المشكاة، والزجاجة، والمصباح، والشجرة، والزيت.
فإن الحساسة كالمشكاة لأن محلها كالكوى، ووجهها إلى الظاهر لا يدرك وراؤها، وإضاءتها بالمعقولات لا بالذات، والخيالية كالزجاجة في قبول صور المدركات من الجوانب، وضبطها للأنوار العقلية، وإنارتها بما يشتمل عليها من المعقولات، والعاقلة كالمصباح لاضاءتها بالإدراكات الكلية والمعارف الإلهية، والمفكرة كالشجرة المباركة لتأديها إلى ثمرات لا نهاية لها، والزيتونة المثمرة للزيت الذي هو مادة المصابيح التي لا تكون شرقية ولا غربية، لتجردها عن اللواحق الجسمية، أو لوقوعها بين الصور والمعاني متصرفة في القبيلتين منتفعة من الجانبين، والقوة القدسية كالزيت فإنها لصفائها وشدة ذكائها تكاد بالمعارف من غير تفكر ولا تعليم.
أو تمثيل للقوة العقلية في مراتبها بذلك، فإنها في بدء أمرها خالية عن العلوم، مستعدة لقبولها كالمشكاة، ثم ينتقش بالعلوم الضرورية بتوسط إحساس الجزئيات بحيث يتمكن من تحصيل النظريات، فيصير كالزجاجة متلألئة في