ما في بطني لجعلته محررا. ومعنى " لك " أي لعبادتك. " محررا " نصب على الحال وقيل:
نعت لمفعول محذوف، أي إني نذرت لك ما في بطني غلاما محررا، والأول أولى من جهة التفسير وسياق الكلام والاعراب: أما الاعراب فإن إقامة النعت مقام المنعوت لا يجوز في مواضع، ويجوز على المجاز في أخرى، وأما التفسير فقيل إن سبب قول امرأة عمران هذا أنها كانت كبيرة لا تلد، وكانوا أهل بيت من الله بمكان، وأنها كانت تحت شجرة فبصرت بطائر يزق فرخا فتحركت نفسها لذلك، ودعت ربها أن يهب لها ولدا، ونذرت إن ولدت أن تجعل ولدها (1) محررا: أي عتيقا خالصا لله تعالى، خادما للكنيسة حبيسا عليها، مفرغا لعبادة الله تعالى. وكان ذلك جائزا في شريعتهم، وكان على أولادهم أن يطيعوهم. فلما وضعت مريم قالت: " رب إني وضعتها أنثى " يعني أن الأنثى لا تصلح لخدمة الكنيسة. قيل لما يصيبها من الحيض والأذى. وقيل: لا تصلح لمخالطة الرجال. وكانت ترجو أن يكون ذكرا (2) فلذلك حررت.
الثالثة - قال ابن العربي: " لا خلاف أن امرأة عمران لا يتطرق إلى حملها نذر لكونها حرة، فلو كانت امرأته أمة فلا خلاف أن المرء لا يصح له نذر في ولده وكيفما تصرفت حاله، فإنه إن كان الناذر عبدا فلم يتقرر له قول في ذلك، وإن كان حرا فلا يصح أن يكون مملوكا له، وكذلك المرأة مثله، فأي وجه للنذر فيه؟ وإنما معناه - والله أعلم - أن المرء إنما يريد ولده للانس به والاستنصار والتسلي، فطلبت هذه المرأة الولد أنسا به وسكونا إليه، فلما من الله تعالى عليها به نذرت أن حظها من الانس به متروك فيه، وهو على خدمة الله تعالى موقوف، وهذا نذر الأحرار من الأبرار. وأرادت به محررا من جهتي، محررا من رق الدنيا وأشغالها، وقد قال رجل من الصوفية لامه: يا أمه: ذريني لله أتعبد له وأتعلم العلم، فقالت نعم. فسار حتى تبصر ثم عاد إليها فدق الباب، فقالت من؟ فقال لها: ابنك فلان، قالت: قد تركناك لله ولا نعود فيك.
الرابعة - قوله تعالى: (محررا) مأخوذ من الحرية التي هي ضد العبودية، من هذا تحرير الكتاب، وهو تخليصه من الاضطراب والفساد. وروى خصيف عن عكرمة ومجاهد: