فإذا تكلفه رك كلامه، ولذلك تفاضل الشعراء في أوزان الشعر: فمنهم من يقوى على الطويل دون الرجز، ومنهم من لا يتأتى منه غير الرجز ولو تكلف الطويل لرك كلامه. والرجال المفرطون في الفصاحة معروفون كالعجاج ورؤبة وغيرهما وإن لم يكن لهما قصيد، وإن كان فلم يشبه الرجز ولا قاربه.
وإذا ثبت ذلك فليس في وجود كثير من كلام العرب ما يدل على أنهم لو تكلفوه بهذا النظم لكان مثله، لما عدلوا عن المعارضة وتعذرت عليهم إما لفقد علمهم بالنظم وإن كان فصيحا أو لعلمهم بأنهم لو تكلفوا ذلك لوقعوا دونه دل ذلك على أن القرآن خارق للعادة بمجموع الأمرين.
على أن اشتباه كثير من كلام العرب على الفصحاء لا يدل على أنه مثله، لأنه قد يشتبه الشيئان على أصحاب الصنائع وإن كان بينهما بون بعيد، كاللؤلئين الغاليين في الثمن والمشتبهين المنهرجين حتى أنه لا يدخل الشبه بينهما ويتم الأغلاط، وإن كان لا يشتبه عندهم لؤلؤة حقيرة مع مختلفة.
ومن الناس من قال: إن المطبوعين على الفصاحة الذين هم في الطبقة الأولى وجدوا الفرق بين فصيح كلام العرب وبين القرآن وإنما كابروا في ذلك، وكل من يجري مجراهم فهو مثلهم. فأما من لم يبلغ تلك المنزلة فهو لا يعلم الفرق فربما قلد وأحسن الظن أو اعتقد اعتقادا ليس بعلم، فلا يمكن ادعاء العلم الضروري في ذلك، وعلم أنه لو كان وجه الاعجاز سلب العلوم لكانت العرب إذا سلبوا هذه العلوم خرجوا عن كمال العقل.
وبهذا أجبنا من قال لم لا يجوز أن يكون من تأتى منه الفعل المحكم معتقدا أو ظانا دون أن يكون عالما. بأن قلنا: ما لأجله تأتى الفعل المحكم هو أمر يلزم مع كمال العقل، فلا يخرج عنه إلا باختلال عقله. والعلم بالفصاحة