على ما يقاربه، لأن التفات بين الفصحاء لا ينتهي إلى حد يخرق العادة. على أن الفصحاء المعروفين والبلغاء المشتهرين في وقته كلهم كانوا منحرفين عنه، كالأعشى الكبير الذي هو في الطبقة الأولى ومن أشبهه مات على كفره، وكعب بن زهير أسلم في آخر الأمر وهو في الطبقة الثانية وكان من أعدى الناس له عليه السلام، ولبيد بن ربيعة والنابغة الجعدي من الطبقة الثالثة أسلما بعد زمان طويل، ومع هذا لم يحظيا في الاسلام بطائل. على أنه لو كان ينبغي أن يوافقوه على ذلك ويقولون له الفصحاء المبرزون واطأوك ووافقوك، فإن الفصحاء في كل وقت لا يخفون على أهل الصناعة.
فإن قيل: لم لا يكون النبي عليه السلام أفصح العرب فلذلك تأتى منه القرآن وتعذر على غيره، أو تعمل ذلك في زمان طويل فلم يتمكنوا من معارضته في زمان قصير.
قيل: هذا لا يتوجه على من يقول بالصرفة، لأن القائلون بها يقولون إن مثل ذلك كان في كلامهم وخطبهم وإنما صرفوا عن معارضته في المستقبل، فلا معنى لكونه أفصح. ومن قال جهة الاعجاز الفصاحة يقول كونه أفصح لا يمنع من أن يقارنوه أو يدانوه، وذلك هو المطلوب المعتاد بينهم في المعارضة، فإن جعلوه أفصح وإنه خرق العادة بفصاحته كفى ذلك لأهل الاعجاز. على أن كونه أفصح لا يمنع من مساواته ومقارنته في قليل من الكلام الذي يتأتى به سورة قصيرة بذلك خرق العادة. ألا ترى أن المتقدمين من الشعراء وإن كانوا أفصح من المتأخرين لا يمنع أن يقع منهم البيت والبيتان من مثل فصاحة أولئك.
ثم لو كان الأمر على ما قالوه لوافقوه على ذلك وقالوا له أنت أفصحنا فلذلك تأتى منك ما تعذر علينا، فيكون في ذلك إبطال أمره وإن كان فيه اعتراف له بفضل لا يضرهم وإنما يضرهم السكوت عنه.