كان يحييه عندهم بمجرى عادتهم، وفي ذلك تصديق الكذاب. ولا جواب عن ذلك إلا بأن يقال: إنه استفساد يجب المنع منه كما نقوله في الجواب الآخر.
والوجه الثاني - أن القرآن إذا كان خارقا للعادة بفصاحته فإنما تأتى من الجني ذلك بأن يجدد الله تعالى له العلوم بالفصاحة حالا بعد حال، لأن العلوم لا تبقى، فيصير خلق هذه العلوم هو الخارق للعادة، وجرى ذلك مجرى ما يقول صاحب الصرفة في مواضع أن ثبت لو ادعى النبوة وجعل معجزه نقل الجبال أو طفر البحار لكان خلق القدر التي يتمكن من ذلك هو الخارق للعادة، وهو المعجز لا نفس النقل، لأن فعلنا لا يكون عنده دليلا على التصديق، وإنما يدل على التصديق ما يختص تعالى بالقدرة عليه.
ومتى رجع إلى أن قال: القرآن لم يخرق العادة بفصاحته. سقطت معارضته بسؤال الجن وصار الكلام في هل هو خرق العادة أو ليس بخارق لها، وقد مضى الكلام على صحة ذلك.
والجواب الثاني عن سؤال الجن أنه لو كان القرآن من فعل الجن لمنع الله تعالى منه، لأن ذلك مفسدة ولا يجوز التمكين من ذلك على الله تعالى.
فإن قيل: إنما لا يجوز عليه تعالى أن يفعل نفس الاستفساد، وأما المنع من الاستفساد فلا يجب، ولو وجب ذلك لوجب أن يمنع تعالى كل شبهة من الممخرقين والمشعبذين من كل ما يدخل فيه الشبهة على الخلق، فالمنع من الشبهات وفعل القبائح مع التكليف لا يجب، وليس إذا لم يجز عليه تعالى الاستفساد لم يجز عليه التمكين منه، [كما إذا لم يجز عليه القبيح لم يجب عليه المنع منه] 1)، وكان يلزم أن يمنع الله تعالى زرداشت وماني والحلاج وغيرهم من الممخرقين الذين فسد بهم خلق من الناس ولولاهم لما فسدوا إن وجب المنع من الاستفساد.