وهذه الحقيقة تفرض - بطبيعة الحال ان - يكون القسم المكي مرتبطا - بمادته وموضوعاته - بالأسس والركائز للرسالة الجديدة، بحيث يكون أكثر شمولا واتساعا في تناوله لهذا الجانب من جانب آخر، وهذا هو الذي يفسر لنا أيضا غلبة المكي على المدني من الناحية الكمية، مع أن المدة المدنية تبدو - تأريخيا - وكأنها زاخرة بالاحداث الجسام، والمجتمع المدني أكثر تعقيدا ومشاكل، لان القرآن في القسم المدني لم يكن بحاجة كبيرة إلى تناول تلك الأسس والركائز بعد أن كان قد تناولها في القسم المكي باستيعاب.
ثالثا: إن عملية التغيير الاجتماعي كانت بحاجة - على أساس الفكرة التي أشرنا إليها في بداية هذا الفصل - إلى أن تهتم بمراعاة الظروف وطبيعة المجتمع التي تتناوله عملية التغيير، وتركز على القضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية، والأمراض الأخلاقية التي يعيشها ذلك المجتمع، حتى يتحقق هذا التغيير بشكل مناسب.
وبذلك يمكن تفسير الخصائص السابقة التي أشرنا إليها في الفرق بين المكي والمدني.
فأما بالنسبة إلى الخصيصة الأولى: نلاحظ أن المجتمع المكي كان مجتمعا يتسم بطابع الوثنية في الجانب العقيدي، فكان من الطبيعي تأكيد فكرة رفض الشرك والوثنية والدخول في مناقشة طويلة معها بالأساليب والطرق شتى. إضافة إلى أن ايضاح الموقف تجاه العقيدة الوثنية يشكل نقطة أساسية في القاعدة للرسالة الجديدة، لأنها تتبنى التوحيد الخالص أساسا لكل جوانبها وتفصيلاتها الأخرى.
وبالنسبة إلى الخصيصة الثانية: نلاحظ أن المجتمع المكي لم يكن يؤمن بفكرة الاله الواحد، كما لا يؤمن بعوالم الغيب والبعث والجزاء والوحي، وغير ذلك من شؤون عالم الغيب، والتأثير المتبادل بينه وبين عالم الطبيعة وحياة الانسان