فلو أنه سبحانه أجبر عباده على الطاعات أو المعاصي لم يكن جزا المطيع بالجنة والعاصي بالنار الا جزافا في مورد المطيع، وظلما في مورد العاصي، والجزاف والظلم قبيحان عند العقلاء ولزم الترجيح من غير مرجح وهو قبيح عندهم أيضا ولا حجة في قبيح وقد قال تعالى: (لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل) النساء - 165، وقال تعالى: (ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة الأنفال - 42، فقد اتضح بالبيان السابق أمور: أحدهما: أن التشريع ليس مبنيا على أساس الاجبار في الافعال، فالتكاليف مجعولة على وفق مصالح العباد في معاشهم ومعادهم أولا، وهي متوجهة إلى العباد من حيث أنهم مختارون في الفعل والترك ثانيا، والمكلفون انما يثابون أو يعاقبون بما كسبت أيديهم من خير أو شر اختيارا.
ثانيها: أن ما ينسبه القرآن إليه تعالى من الاضلال والخدعة والمكر والامداد في الطغيان وتسليط الشيطان وتوليته على الانسان وتقييض القرين ونظائر ذلك جميعها منسوبة إليه تعالى على ما يلائم ساحة قدسه ونزاهته تعالى عن ألواث النقص والقبح والمنكر، فإن جميع هذه المعاني راجعة بالآخرة إلى الاضلال وشعبه وأنواعه، وليس كل إضلال حتى الاضلال البدوي وعلى سبيل الاغفال بمنسوب إليه ولا لائق بجنابه، بل الثابت له الاضلال مجازاة وخذلانا لمن يستقبل بسوء إختياره ذلك كما قال تعالى: ( يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا وما يضل به إلا الفاسقين الآية) البقرة - 26، وقال: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم) الصف - 5، وقال تعالى: (كذلك يضل الله من هو مسرف مرتاب) المؤمن - 34.
ثالثها: أن القضاء غير متعلق بأفعال العباد من حيث أنها منسوبة إلى الفاعلين بالانتساب الفعلي دون الانتساب الوجودي وسيجئ لهذا القول زيادة توضيح في التذييل الآتي وفي الكلام على القضاء والقدر إن شاء الله تعالى.
رابعها: أن التشريع كما لا يلائم الجبر كذلك لا يلائم التفويض، إذ لا معنى للامر والنهي المولويين فيما لا يملك المولى منه شيئا، مضافا إلى أن التفويض لا يتم الا مع سلب اطلاق الملك منه تعالى عن بعض ما في ملكه.