وما أوحي إليه من أمر القبلة، أجنبي عن موضوع الكتاب الذي اوتيه أهل الكتاب، فالمعنى ان أهل الكتاب يعرفون رسول الله بما عندهم من بشارات الكتب كما يعرفون أبنائهم، وان فريقا منهم ليكتمون الحق وهم يعلمون.
وعلي هذا ففي الكلام التفات من الحضور إلى الغيبة في قوله يعرفونه، فقد أخذ رسول الله غائبا، ووجه الخطاب إلى المؤمنين بعد ما كان صلى الله عليه وآله وسلم حاضرا، والخطاب معه، وذلك لتوضيح: ان امره صلى الله عليه وآله وسلم واضح ظاهر عند أهل الكتاب، ومثل هذا النظم كمثل كلام من يكلم جماعة لكنه يخص واحدا منهم بالمخاطبة إظهارا لفضله، فيخاطبه ويسمع غيره، فإذا بلغ إلى ما يخص شخص المخاطب من الفضل والكرامة، عدل عن خطابه إلى مخاطبة الجماعة، ثم بعد الفراغ عن بيان فضله عدل ثانيا إلى ما كان فيه أولا من توجيه الخطاب إليه وبهذا يظهر نكتة الالتفات.
قوله تعالى: الحق من ربك فلا تكونن من الممترين، تأكيد للبيان السابق وتشديد في النهى عن الامتراء، وهو الشك والارتياب، وظاهر الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومعناه للأمة.
قوله تعالى: ولكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات، الوجهة ما يتوجه إليه كالقبلة، وهذا رجوع إلى تلخيص البيان السابق، وتبديل له من بيان آخر يهدي الناس إلى ترك تعقيب أمر القبلة، والاكثار من الكلام فيه، والمعنى ان كل قوم فلهم قبلة مشرعة على حسب ما يقتضيه مصالحهم وليس حكما تكوينيا ذاتيا لا يقبل التغيير والتحويل، فلا يهم لكم البحث والمشاجرة فيه، فاتركوا ذلك واستبقوا الخيرات وسارعوا إليها بالاستباق، فان الله سيجمعكم إلى يوم لا ريب فيه، وأينما تكونوا يأت بكم الله جميعا ان الله على كل شئ قدير.
واعلم أن الآية كما انها قابلة الانطباق على أمر القبلة لوقوعها بين آياتها كذلك تقبل الانطباق على أمر التكوين، وفيها إشارة إلى القدر والقضاء، وجعل الاحكام والآداب لتحقيقها وسيجئ تمام بيانه فيما يخص به من المقام إنشاء الله.