فقال: (قل) يا محمد (أوحي إلي) إنما ذكره على لفظ ما لم يسم فاعله، تفخيما وتعظيما، والله سبحانه أوحى إليه، وأنزل الملك عليه (أنه استمع نفر من الجن) أي استمع القرآن طائفة من الجن، وهم جيل رقاق الأجسام خفيفة على صورة مخصوصة، بخلاف صورة الانسان والملائكة، فإن الملك مخلوق من النور، والإنس من الطين، والجن من النار. (فقالوا) أي قالت الجن بعضها لبعض (إنا سمعنا قرآنا عجبا) والعجب ما يدعو إلى التعجب منه لخفاء سببه، وخروجه عن العادة في مثله، فلما كان القرآن قد خرج بتأليفه المخصوص عن العادة في الكلام، وخفي سببه عن الأنام، كان عجبا لا محالة. وأيضا فإنه مباين لكلام الخلق في المعنى، والفصاحة، والنظام، لا يقدر أحد على الإتيان بمثله، وقد تضمن؟ أخبار الأولين والآخرين، وما كان وما يكون، أجراه الله على يد رجل أمي من قوم أميين، فاستعظموه وسموه عجبا.
(يهدي إلى الرشد) أي يدل على الهدى، ويدعو إليه، والرشد ضد الضلال (فآمنا به) أي صدقنا بأنه من عند الله (ولن نشرك) فيما بعد (بربنا أحدا) فنوجه العبادة إليه، بل نخلص العبادة لله تعالى. والمعنى: إنا قد بدأنا بأنفسنا، فقبلنا الرشد والحق، وتركنا الشرك، واعتقدنا التوحيد. وفي هذا دلالة على أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان مبعوثا إلى الجن والإنس، وعلى أن الجن عقلاء مخاطبون، وبلغات العرب عارفون، وعلى أنهم يميزون بين المعجز وغير المعجز، وأنهم دعوا قومهم إلى الاسلام، وأخبروهم بإعجاز القرآن، وأنه كلام الله تعالى لأن كلام العباد لا يتعجب منه وروى الواحدي بإسناده عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على الجن، وما رآهم. انطلق رسول الله في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء. فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب. قالوا: ما ذاك إلا من شئ حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها. فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو بنخل، عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر. فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم وقالوا: (إنا