قال: فأحب أبو تمام أن يخرج عن عادات بني آدم ويكون أمة وحده.
فيقال له: لم لم تفطن لمعنى أبي تمام فذممته، وقد تكلمنا على هذه الوهلة منك في كتابنا المعروف بغرر الفرائد وقلنا: إنه لم يرد العيادة الحقيقة التي يغشى فيها العواد مجالس المرضى، وإنما تلطف في الاستعارة والتشبيه وأشار إلى الغرض إشارة مليحة. والمعنى: أن الشيب لما طرقني كثر عندي المتوجعون لي منه والمتأسفون على شبابي، إما بقول يظهر منهم أو بما هو معلوم من قصدهم واعتقادهم، فسماهم عوادا تشبيها بعائد المريض الذي من شأنه أن يتوجع له من مرضه. ولما كثر المتفجعون له من الشيب حسن أن يقول (عمرت مجلسي من العواد)، لأن هذه العبارة تدل على الكثرة والزيادة.
وهذا الذي ذكرناه في كتاب الغرر وهو كاف شاف، ويمكن فيه وجه آخر، وهو: أن يريد بقوله (عمرت مجلسي من العواد) الإخبار عن وجوب عيادته واستحقاقه لذلك بما نزل به، فجعل ما يجب أن يكون كائنا واقعا.
وهذا له نظائر كثيرة في القرآن وفي كلام العرب وأشعارهم، قال الله عز وجل (ومن دخله كان آمنا) 1) وإنما المعنى أنه يجب أن يأمن، فجعل قوة الوجوب واللزوم كأنه حصول ووقوع.
وما يروى عن النبي صلى الله عليه وآله من قوله (العارية مردودة والأمانة مؤداة والزعيم غارم) من هذا أيضا، لأنه جعل الوجوب في هذه المواضع كأنه وقوع ووجوب.
وقد يقول القائل: فعل فلان كذا من الجميل فكثر مادحوه، وإن لم يمدحه أحد، وفعل كذا من القبيح فكثر ذاموه، وإن لم يذمه بشر. وإنما المعنى ما أشرنا إليه.