فقد فارق الشباب وهو مفارق للعمر لا محالة، فهو أيضا تارك لهما جميعا. وقوله (إما وأما) لا يوجب إلا أحدهما.
ثم قال: والعذر للبحتري أن من مات شابا فقد فارق الشباب وحده لأنه لم يعمر فيكون مفارقا للعمر. ألا ترى أنهم يقولون (عمر فلان) إذا أسن، وفلان لم يعمر إذا مات شابا، ومن شاب وعمر لم يكن مفارقا للشباب في حال موته، لأنه قد قطع أيام الشباب وتقدمت مفارقته له، وإنما يكون في حال موته مفارقا للعمر وحده. فإلى هذا ذهب البحتري، وهو صحيح، ولم يرد بالعمر المدة القصيرة التي يعمرها الإنسان، وإنما أراد بالعمر هاهنا الكبر كما قال زهير:
رأيت المنايا خبط عشواء من نصب * تمته ومن تخطئ يعمر فيهرم ولم يرد البحتري ما توهمه الآمدي، وإنما أراد أن الإنسان بين حالين: أما أن يفارق الشباب بالشيب والعمر بالموت، فمن مات شابا فإنما فارق العمر وفارق بفراقه سائر أحوال الحياة من شباب وشيب وغيرهما، فلم يفارق الشباب وحده بلا واسطة، وإنما فارق العمر الذي فارق بمفارقته الشباب وغيره. وقسمة البحتري تناولت أحد أمرين: إما مفارقة الشباب وحده بلا واسطة ولن يكون إلا بالشيب أو مفارقة العمر بالموت.
وتقدير كلامه: لا بد للحي منا من مشيب أو موت، لأن الشيب والموت يتعاقبان عليه. وإنما أقام البحتري قوله (العمر) مقام قوله (الحياة والبقاء)، وعدل إلى لفظة العمر لأجل القافية، ولو قال: لا بد من ترك الشباب أو ترك الحياة لقام مقام قوله العمر.
فأما اعتراضه بمن مات شيخا وإنه قد فارق العمر والشباب جميعا. فليس بشئ، لأن هذا ما فارق إلا العمر دون الشباب، لأن الشباب قد تقدمت مفارقته له