وعلى مثل ذلك كان جواب الصديق الأكبر وسرعة طاعته عندما دعاه النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمضى حتى تلفف ببرده لا يظن إلا أن القوم سيقعون به فسمحت نفسه بذلك كما سمحت نفس ذبيح الله للإجابة، ودفع الله عنهما جميعا وسلمهما من التلف عندما امتحنا، وعظم الثواب والأجر لهما على ما قصدا ونويا.
فهذه محنة لم نعرف لها شبها إلا في محن الأنبياء عليهم السلام، وفي ذلك نزلت:
" وإذا يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك، ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين " [54 / آل عمران: 3] وكان علي مكر الله في تلك الليلة.
ثم محنته يوم الجمل ويوم صفين، وما ذكرنا من تفرق أصحابه عند بعد ليلة الهرير، وما دخل عليهم من الشك والارتياب بمكيدة الملاعين أشباه السامري لم يعرف لها مثلا إلا ما امتحن الله به هارون نبي الله مع بني إسرائيل عند تمويه السامري لهم باتخاذ العجل وما أدخل عليهم من اللبس بما سمعوا [من العجل] من الخوار، فتفرقوا عند ذلك عن هارون صلى الله عليه، وأقبلوا عليه يعكفون فقالوا: هذا إلهنا وإله موسى. كفرا بعد إيمان وشكا بعد يقين عند مخالفتهم لموسى وهارون، وتركهم لهارون مفردا وحيدا وهارون يناديهم: " يا قوم إنما فتنتم به وإن ربكم الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أمري. قالوا لن نبرح عليه عاكفين " [91 / طه: 20].
وعلى مثل ذلك دعاهم الصديق علي بن أبي طالب الشهيد لما تفرق أصحابه يوم صفين عندما ظهر من مكيدة أشباه السامري [فقال لهم]: إنكم يا قوم قد فتنتم وخدعتم برفع المصاحف فاتقوا الله ولا تعصوني في أمري فإنكم إن فعلتم لم تروا عزا أبدا (1) ولتلقون بعدي ذلا شاملا، وسيفا قاتلا، وأثرة يتخذها الظالمون فيكم سنة.
فأبوا عليه إلا مضيا مع الشبهة، ولم يطيعوا أمره انقيادا للخدعة.