بتخفيف العذاب.
(يا موسى طب نفسا عن الدنيا وانطو عنها) طيب النفس والسرور بالمجاوزة عن الدنيا والانطواء وطي الكشح عنها غاية الزهد فيها ولذلك أمره بهما وعلل الأمرين بقوله: (فإنها ليست لك ولست لها) فإنها باعتبار ما فيها من الزهرات واللذات للفاسقين وروحك المطهر من أعلى عليين، ثم حذره عنها على سبيل الإنكار والتوبيخ في الميل إليها بقوله (ما لك ولدار الظالمين) المغرورين بها والمشغولين بشهواتها (إلا لعامل فيها بالخير فإنها له نعم الدار) فالدنيا ممدوحة باعتبار أنها مضمار للآخرة ومحل لاكتساب الزاد لها وتحصيل مقام القرب والدرجة الرفيعة فيها وإنما ذمها باعتبار ما فيها من الزهرات الشاغلة للمائلين إليها المفتونين بها عن الله تعالى وعن العمل للآخرة وظاهر هذا الاستثناء الانقطاع ويمكن صرفه إلى الاتصال بأن يكون المراد بالظالم العامل بالظلم وهو من حيث هو مع قطع النظر عن تقييده بالظلم يصدق على العامل بالخير فليتأمل.
(يا موسى ما آمرك به فاسمع) كناية عن الأخذ والقبول والعمل به كما في قولنا: إذا نصحتك فاسمع (ومهما أراه فاصنع) أي مهما أراه خيرا لك فاصنع على حذف المفعول الثاني لأن الرؤية بمعنى العلم تتعدى إلى مفعولين (خذ حقايق التوراة إلى صدرك) المراد بحقايقها المعاني الأولية وما فوقها والأسرار الإلهية والنصايح والمواعظ الربانية المذكورة فيها (وتيقظ بها في ساعات الليل والنهار) أي تيقظ بقراءة التوراة والعمل بأحكامها والعلم بحقايقها في جميع الأوقات (ولا تمكن أبناء الدنيا) الذين يميلون وينتسبون إليها كميل الابن وانتسابه إلى أبيه (من صدرك فيجعلونه وكرا كوكر الطير) الوكر بالفتح والتسكين عش الطاير، وإنما نهاه عن تمكينهم من صدره وميل قلبه إليهم لأنهم حينئذ يجعلونه وكرا لأنفسهم ويتصرفونه ويلازمونه كما يلازم الطائر عشه ويتولد منهم حب الدنيا.
(يا موسى أبناء الدنيا وأهلها فتن بعضهم لبعض فكل مزين له ما هو فيه) تأكيد لما مر وتنبيه على ترك مودتهم ومجالستهم لأنهم يزينون زينة الدنيا لجلسائهم قولا وفعلا ويتصرفون في صدورهم تصرفا تاما ويقرب منه قول أمير المؤمنين (عليه السلام) «ولا ترفعوا من رفعته الدنيا» وذلك لأن من رفعته الدنيا وأهلها لما كان عادلا من التقوى كان الميل إليه واحترامه ومحبته ومجالسته يستلزم المحبة للدنيا والميل إليها فكان منهيا عنه وعدم توقيره ومجالسته زهدا في الدنيا وفي أهلها وهو من جملة التقوى فكان مأمورا به (والمؤمن زينت له الآخرة) زينها الله تعالى بإنزال الكتاب وإرسال الرسول وبيان أوصافها ونعيمها (فهو ينظر إليها ما يفتر) الفتور الضعف والسكون وضد الحدة يقال: طرف فاتر أي حسير كليل ليس بحاد، والمراد بالنظر النظر بالبصيرة القلبية والقوة العقلية الحاصلة بالعلوم الشرعية والرياضة النفسية بعد رفض العلائق وقطع العوائق فهو حينئذ