ينظر إلى الآخرة ومقاماتها وأحوال الناس فيها ودرجاتها ويبصر نعيمها وشهواتها لا يكل ولا يضعف نظره ولا يسكن ولا يصرف عنها بصره (قد حالت شهوتها بينه وبين لذة العيش) في الدنيا لأن ملاحظته فضل الآخرة على الدنيا وعلمه بأحوال المعاد بعثه على شهوة الآخرة والعمل لها وتركه لذة عيش الدنيا (فأدلجته بالأسحار) الإدلاج بتخفيف الدال السير في أول الليل وبالتشديد السير في آخره ولعل التعدية باعتبار تضمين معنى التصيير أي صيرته شهوة الآخرة مدلجا سائرا في آخر الليل مشتغلا بالعبادة لعلمه بأن تلك الشهوة لا تنال إلا به (كفعل الراكب السابق إلى غايته) أي مقصده وخطره، شبه سير ذلك المؤمن بسير الراكب السابق إلى غايته لعلمه بأنها لا تنال إلا به، ويمكن أن يكون المشبه به سير الراكب المسافر والوجه هو الوصول إلى المطلوب والراحة والنجاة من الشدايد (يظل كئيبا ويمسي حزينا) فهو دائما في هم وغم وسوء حال وانكسار وحزن من ألم الفراق والغربة والخوف من التقصير وسوء الخاتمة، وفي المصباح ظل يفعل كذا يظل ظلولا إذا فعله نهارا، قال الخليل: لا تقول العرب ظل إلا لعمل يكون بالنهار.
(فطوبى له) أي طيب العيش أو الجنة له، وقد يطلق على المدح وحسن الحال (ولو قد كشف الغطاء) المانع من المشاهدة العينية «ماذا يعاين من السرور» وموجباته المعدة لأولياء الله التي لا ينال وصفها العقل واللسان ولا يدرك قدرها الوهم والبيان، وماذا كلمة استفهام على التركيب أو ما استفهام وذا موصولة أو زائدة.
(يا موسى الدنيا نطفة ليست بثواب للمؤمن ولا نقمة من فاجر) النطفة بالضم ماء الرجل والماء الصافي قل أو كثر، وقليل ما يبقى من دلو أو قربة، قيل: وهو من أقرب العبارات وأعجبها وأفصح الكنايات عن الماء وأغربها، والنقمة بالكسر والفتح وكفرحة المكافات بالعقوبة والجمع نقم ككلم وعنب وكلمات، نقم منه كضرب وعلم وانتقم عاقبه (فالويل الطويل من باع ثواب معاده بلعقة لم تبق) في بعض النسخ «بلقطة» وهي ما يؤخذ من مال مطروح وفي بعضها بلعبة وهي بالضم التمثال وما يلعب به كالشطرنج ونحوه، استعارها لمتاع الدنيا لكونه كل يوم في يد أحد (وبلعقة لم تدم) (1) في القاموس: لعقة كسمعة لعقة ويضم لحسه وبالضم ما تأخذه في الملعقة شبه بها حطام الدنيا في القلة والخسة والحقارة والمراد ببيع ثواب المعاد بها تبديل ما يوجبه من الزهد والورع والتقوى وغيرها بها وهذا التبديل يوجب الويل وهو حلول الشر والفضيحة والتفجع والعذاب أو هو واد في جهنم أو بئر فيها (وكذلك) أي والحال أن الدنيا ووصف أهلها ما ذكر لا ريب فيه (فكن كما أمرتك) مما فيه صلاحك مثل طيب النفس عن الدنيا والعمل بحقايق التوراة