هو من ذل وانكسار وكل ذلك مكروه عند الله تعالى ولذلك ورد النهي عن إذلال المؤمن نفسه، ووردت الروايات على ترغيب المؤمن في طلب المطالب كلها، قليلها وكثيرها، عظيمها وحقيرها منه تعالى.
(اتخذني جنة للشدايد وحصنا لملمات الأمور) الأمور الملمة هي النازلة من نوازل الدهر ونوائبه الثقيلة على النفس ويتحقق الاتخاذ بالتوجه إليه عند نزولها وقبله، ففيه حث على الدعاء والتضرع والابتهال في جميع الأحوال.
(يا موسى كيف تخشع لي خليقة لا تعرف فضلي عليها؟) المراد بالخليقة الناس وبفضله نعمته وإحسانه ولطفه على عباده وهي باطنة وظاهرة والباطنة ما يكمل به كل شخص ويتم به ماهيته كالقوى وغيرها من الجوارح والأعضاء.
والظاهرة منها ما يتوقف عليها بقاء وجوده واستمراره المقدر من المأكول والمشروب والملبوس وغيرها ومنها ما يتوقف عليه كمال نفسه الناطقة من الأخلاق والأعمال والأوامر والنواهي وإرسال الرسول وإنزال الكتاب والوعد بالثواب والعقاب وغيرها مما نطق به لسان الشرع، إذا عرفت هذا فنقول تخشع الناس وتذللهم لله تعالى متوقف على التصديق بفضله عليهم بالضرورة إذ لا يتخشع ولا يتذلل أحد لمن لا فضل له عليه ولا حاجة له إليه، ولهذا نفى التخشع عمن لم يكن له هذه المعرفة والتصديق، ثم هذا التصديق متوقف على تصور المحكوم به وهو الفضل وهذا التصور متوقف على الإيمان بالفضل والإقرار بوجوده وهذا الإقرار متوقف على الرجاء بالثواب اللازم للفضل وهذا الرجاء متوقف على رفض الدنيا وعدم اتخاذها دار استيطان فأشار إلى الأول وهو توقف هذا التصديق على تصور المحكوم به بقوله (وكيف تعرف فضلي عليها وتصدق به وهي لا تنظر فيه) أي في الفضل ولا تتصوره لإنتفاء التصديق بانتفاء التصور، وأشار إلى الثاني بقوله (وكيف تنظر فيه) أي في الفضل وتتصوره (وهي لا تؤمن به) أي لا تقر بوجوده وأشار إلى الثالث بقوله (وكيف تؤمن به وهي لا ترجو ثوابا) لأن الإقرار بوجود الفضل الذي من جملته الشرع يستلزم الرجاء بالثواب الموعود فيه وانتفاء اللازم يستلزم انتفاء الملزوم، وأشار إلى الرابع بقوله:
(وكيف ترجو ثوابا وهي قد قنعت بالدنيا) وغفلت عن الآخرة (واتخذتها مأوى) أي دار استيطان ومسكن استقرار وركنت إليها ركون الظالمين الخارجين من الدين لأن الرجاء بالثواب يستلزم التمسك بأسبابه والعمل للآخرة وعدم القناعة بالدنيا والركون إليها وانتفاء اللازم دليل على انتفاء الملزوم، ويظهر من هذه المقدمات أن القانع بالدنيا الغافل عن الآخرة مسلوب عنه جميع ما تقدم لأن انتفاء الموقوف عليه والأسباب مستلزم لانتفاء الموقوف والمسببات وليس للدنيا وأهلها ذم أبلغ من هذا والله يعلم.