ومستحقر لها، وعدو للمنعم عليه متعرض للإضرار به على قدر الإمكان وضرره عليه أمر مجرب معلوم لمن نظر في كتب السير والآثار حتى خربت به البيوتات والديار وعدو نفسه وجسده كما أشار إليه بعض شراح نهج البلاغة أما لنفسه فلأنه يصرف فكرها في أمر المحسود حتى لا تفرغ للتصرف فيما يعود نفعه إليها وينسى ما حصل لها من الحسنات المنقوشة في جوهرها وتضمحل تلك الحسنات على طول الحسد واشتغال الفكر فيه وطول الحزن والهم بالكلية وأما لجسده فلأنه يعرض له عند حدوث هذه الأعراض للنفس طول السهر وسوء الاغتذاء ورداءة اللون وسوء السجية وفساد المزاج وتعطيل الجوارح عن الأعمال الحسنة.
إذا عرفت هذا فنقول استعار لفظ الأكل لكون الحسد ماحيا لما في النفس والجوارح من الأخلاق الفاضلة والأعمال الصالحة التي هي الحسنات ومانعا من صيرورتها ملكات وذلك بسبب استغراقه في حال المحسود واشتغاله به وشبه ذلك بأكل النار الحطب ووجه التشبيه ما يشترك فيه الحسد والنار من إفناء الحسنات والحطب واستهلاكهما.
(يا موسى إن ابني آدم) من صلبه هابيل وقابيل والقول بأنهما لم يكونا من صلبه وأنهما رجلان من بني إسرائيل ضعيف (تواضعا) من المواضعة وهي الموافقة في أمر، لا من التواضع بمعنى التخاشع والتذلل والتخاضع لعدم تحقق هذا المعنى في أحدهما وهو قابيل (في منزلة لينالا بها من فضلي ورحمتي) لعل المراد بالمنزلة منزلة الكرامة والشرف والقرب بالحق (فقربا قربانا) كان قربان هابيل كبشا من أفضل أفراد غنمه فقبل بنزول النار البيضاء عليه وأكلها له وكان قربان قابيل من أخس أفراد زرعه وأرداه فلم يقبل.
والمراد بالقربان هنا ما يتقرب به إلى الله من الذبيحة وغيرها وهو في الأصل مصدر ولذلك لم يثن مع أن المراد منه اثنان، وقيل: تقديره فقرب كل واحد منهما قربانا فلا يحتاج إلى التثنية (ولا أقبل إلا من المتقين) فقبل من هابيل لأنه كان من أهل التقوى لا من قابيل لمعصيته وخسة قربانه وعدم خلوص نيته.
قال جماعة منهم الفاضل الأردبيلي: فيه دلالة على أن قبول الطاعة مشروط بالتقوى وأن عبادة الفاسق غير مقبولة وإن كانت صحيحة إذا وقعت على وجهها، ثم قال هذا الفاضل: يمكن أن يقال:
المراد أن قبول العبادة مشروطة بالتقوى في تلك العبادة بأن يأتي بها بحيث لا تكون عصيانا مثل أن يقصد الرياء أو غيره من المفسدات، أو بالتقوي عن ذنب ينافي تلك العبادة فيكون إشارة إلى أن الأمر بالشيء يستلزم النهي عن ضده، وقال بعض المتأخرين يمكن أن يكون المراد أن التقوي شرط لقبول مثل هذه العبادة المخصوصة وهي القربان بهذا الوجه وكان من شأنهما ما علمت من قتل قابيل هابيلا حسدا عليه وكان ينبغي أن يقتل نفسه لأن سبب عدم القبول كان من قبله لا من