الاشتراء على المعنى الثاني باعتبار أن الكريم يحب البقاء للطاعات واللئيم يحب الدنيا بعيدا جدا لأن المقام يقتضي حب الموت والترغيب فيه.
(أيها الناس: إن للقلوب شواهد تجري النفس عن مدرجة أهل التفريط) عن للمجاوزة والمدرجة الطريق ولعل المراد بالشواهد الأدلة على الصراط المستقيم والهدايات إليه لأنها تشهد أنه حق وأن خلافه باطل، وفيه تنبيه على أنه لابد من قبول شهادتها بإجراء النفس فيه متجاوزا عن طريق أهل التفريط والتقصير مع الإيماء إلى أن تفريط الصحابة في حقه (عليه السلام) كان على علم ومعرفة منهم.
(وفطنة الفهم للمواعظ ما يدعو النفس إلى الحذر من الخطر) الظاهر أنه مبتدأ وخبر عطفا على اسم إن وخبرها والعطف على الشواهد يقتضي خلو الموصول عن الإعراب ظاهرا والفطنة والفهم في اللغة معرفة الشيء بالقلب وفي العرف جودة تهيأ الذهن لقبول ما يرد عليه من العلوم والمعارف فالإضافة بيانية ولو أريد بالفطنة المعنى العرفي وبالفهم المعنى اللغوي أو كان الفهم بكسر الهاء كانت الإضافة لامية واللام في قوله: للمواعظ، صلة للفهم والموعظة كلام مشتمل على الأمر بالخيرات والزجر عن المنهيات والخطر بالخاء المعجمة ما يخطر بالبال من الهواجس النفسانية وبالظاء المعجمة الحرام ولعل المراد أن فطنة الذهن وفهمه للمواعظ القرآنية والنبوية ما يدعو النفس إلى الاحتراز عن المخاطرات الداعية إلى الخروج عن منهج السداد والنفور عن سبيل الرشاد وفيه توبيخ لمن ترك مقتضى فهمه وسلك سبيل البغي والعناد.
(وللقلوب خواطر للهوى) هو ميل النفس الأمارة بالسوء التابعة للقوى الشهوية والغضبية إلى مقتضى طباعها من اللذات الدنيوية إلى حد الخروج عن الحدود الشرعية وهو أشد جاذب للإنسان عن قصد الحق وأقوى ساد له عن سلوك سبيله.
(والعقول تزجر وتنهى عنه) وقد مر في كتاب الأصول أن بين العقول الخالصة المائلة إلى العالم الأعلى وبين النفس الأمارة الراغبة في الدنيا تجاذب وأن التخلص منها إنما يحصل بكسر هاتين القوتين وإعطاء كل واحدة منهما ما يليق بها شرعا وعقلا.
(وفي التجارب علم مستأنف) أي علم جديد لأن العلوم أكثرها إنما تحصل بالتجربة وعرفها بعض المحققين بأنها عبارة عن حكم العقل بأمر على أمر بواسطة مشاهدات متكررة معدة لليقين بسبب انضمام قياس خفي إليها [إن كان] وهو أنه لو كان هذا أمرا اتفاقيا لما كان دائما ولا أكثريا وهي مركبة من مقتضى الحس والعقل واجتماعهما وبهما يكمل العقل، ولذلك ورد في الخبر: «إن التجارب لقاح العقول» ومما علم به عدم اعتبار الدنيا وزهراتها ووفائها لأهلها كما قيل:
ومن يذق الدنيا فإني طعمتها * وسيق إلينا عذبها وعذابها