معنى الوجوب ترجيح جانب الفعل على الترك، لدفع ضرر موهوم في الترك أو معلوم، فإذا كان هذا هو الوجوب، فالموجب هو المرجح وهو الله تعالى، فإنه إذا ناط العقاب بترك النظر ترجح فعله على تركه، ومعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - إنه وجب: أنه مرجح بترجيح الله تعالى في ربطه العقاب بأحدهما.
وأما المدرك فهو عبارة عن جهة معرفة الوجوب لا عن نفس الوجوب، وليس شرط الواجب أن يكون وجوبه معلوما، بل أن يكون عمله ممكنا لمن أراده، فيقول النبي: إن الكفر سم مهلك فالإيمان شفاء مسعد، فأن جعل الله تعالى أحدهما مسعدا والآخر مهلكا، ولست أوجب عليك شيئا، فإن الإيجاب هو الترجيح والمرجح هو الله تعالى، وإنما أنا مخبر عن كونه سما ومرشد لك إلى طريق تعرف به وهو النظر في المعجزة، فإن سلكت الطريق عرفت ونجوت، وإن تركت هلكت.
مثاله مثال طبيب إنتهى إلى مريض وهو يتردد بين دوائين فقال: أما هذا فلا تناوله، فإنه مهلك للحيوان وأنت قادر على معرفته بأن تطعمه هذا السنور فيموت على الفور، فيظهر لك ما قلت. وأما هذا ففيه شفاؤك وأنت قادر على معرفته بالتجربة، وهو أن تشرب فتشفى، ولا فرق في حقي ولا في حق استادي بين أن تهلك أو تشفى، فإن استادي غني عن بقائك وأنا أيضا كذلك.
فعند هذا لو قال المريض: هذا يجب علي بالعقل أو بقولك، وما لم يظهر لي هذا لم أشتغل بالتجربة، كان مهلكا نفسه ولم يكن عليه ضرر.
فكذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبره عن الله تعالى بأن الطاعة شفاء والمعصية داء، وأن الإيمان مسعد والكفر مهلك، وأخبر أنه غني عن العالمين، سعدوا أم شقوا، وإنما شأن الرسول أن يبلغ ويرشد إلى طريق المعرفة، فمن نظر فلنفسه ومن قصر فعليها، وهذا واضح.