ملف الشام إلى الأبد، وتستريح الأمة من هذه الفتنة العمياء السوداء، وأمر برفع المصاحف على الرماح دلالة على الكف عن القتال، وأمارة على تحكيم كتاب الله فيه، فاتخذ أولئك القراء موقفهم المشين المشهور، وهم المعروفون بسطحيتهم ونظرهم إلى ظاهر الأمور لا باطنها، ولم يروا وجه الحيلة، فأجبروا الإمام (عليه السلام) على قبول التحكيم، والإمساك عن القتال تعظيما لحرمة القرآن بزعمهم، وأكرهوه على ذلك بالرغم من معارضته (عليه السلام) ومعه الخاصة من أصحابه، وهددوه بالقتل عند الرفض، ولم يكن له (عليه السلام) سبيل إلا الاستجابة لذلك المنطق المتعسف الخاوي الجهول؛ لما كان لهم من تغلغل ونفوذ في جيشه، وقبل الإمام (عليه السلام) اقتراحهم، فاستدعى " مالكا " الذي كان قد تقدم في المعركة واقترب من فسطاط معاوية. وهكذا انطلت الخديعة، وواجهت حكومة الإمام (عليه السلام) مشكلة جدية.
انفصال القراء عن الإمام ما لبث أن أميط اللثام، وافتضحت خديعة معاوية، وأدرك القراء السطحيون خطأهم وانخداعهم بمكيدة رفع المصاحف، ولكنهم بدل أن يستفيقوا فيعيدوا الحق إلى نصابه، والماء إلى مسابه نراهم كابروا بمضاعفة تطرفهم، وجهلهم، وإفراطهم، ونظرتهم الضيقة المنغلقة، واجترحوا سيئة أكبر من سابقتها، فقالوا للإمام (عليه السلام): لقد كفرنا بفعلنا هذا، وإنا تائبون منه، وأنت كفرت أيضا؛ فعليك أن تتوب مثلنا، وتنكث ما عاهدت عليه معاوية، وتعود إلى مقاتلته!
ولا ريب في أن نكث الإمام عهده - مضافا إلى ما فيه من مخالفة لسيرته وأسلوبه وتعاليم دينه - يفضي إلى تضيق هؤلاء " المتقدسين " المتعنتين الخناق على الإمام (عليه السلام)، وتحديد نطاق حكومته إلى درجة ينفلت معها زمام الأمور،