ذكر انصراف معاوية عن مكة وما يلي به من سفره من المرض وخبر وفاته قال: ثم رحل معاوية، فلما صار بالأبواء (1) ونزلها قام في جوف الليل لقضاء حاجته فاطلع في بئر الأبواء، فلما اطلع فيها اقشعر جلده وأصابته اللقوة في وجهه (2) فأصبح لما به، فدخل عليه الناس يعزونه ويتوجعون له مما قد نزل به، فقال: أيها الناس! إن المؤمن ليصاب بالبلاء فإما معاقب بذنب وإما مبتلى ليؤجر، وإن ابتليت فقد ابتلى الصالحون من قبلي، وأنا أرجو أن أكون منهم، وإن مرض مني عضو فذلك بأيام صحتي وما عوفيت أكثر، ولئن أعطيت حكمي فما كان لي على ربي أكثر مما أعطاني لأني اليوم ابن بضع وسبعين (3)، فرحم الله عبدا نظر إلي فدعا لي بالعافية، فإني وإن كنت غنيا عن خاصتكم لقد كنت فقيرا إلى عامتكم. قال: فدعا الناس له بخير وخرجوا من عنده.
وجعل معاوية يبكي لما قد نزل به، فقال له مروان بن الحكم: أجزعا يا أمير المؤمنين؟ فقال: لا يا مروان! ولكني ذكرت ما كنت عنه عزوفا ثم إني بليت في أحسني وما ظهر للناس مني، فأخاف أن يكون عقوبة عجلت لي لما كان مني من دفعي بحق علي بن أبي طالب، وما فعلت بحجر بن عدي (4) وأصحابه، ولولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي وعرفت قصدي.
قال: ثم رحل معاوية عن ذلك المكان حتى صار إلى الشام، فدخل إلى منزله واشتد عليه مرضه. وكان في مرضة يرى أشياء لا تسره حتى كأنه ليهذي هذيان المدنف (5) وهو يقول: اسقوني اسقوني! فكان يشرب الماء الكثير فلا يروى. وكان ربما غشي عليه اليوم واليومين، فإذا أفاق من غشوته ينادي بأعلى صوته: ما لي