وجميع البشر تطرأ عليهم الآفات والتغييرات بالاختيار وبغير الاختيار في هذه الوجوه كلها، والنبي صلى الله عليه وسلم وإن كان من البشر ويجوز على جبلته ما يجوز على جبلة البشر، فقد قامت البراهين القاطعة، وتمت كلمة الإجماع على خروجه عنهم، وتنزيهه من كثير من الآفات التي تقع على الاختيار، وعلى غير الاختيار، كما سنبينه إن شاء الله - تعالى.
قال: وقد ذكر حكم عقد قلبه صلى الله عليه وسلم أن ما تعلق منه بطريق التوحيد والعلم بالله وصفاته والإيمان به، وبما أوحى به فعلى غاية المعرفة، ورسوخ العلم، واليقين والانتفاء عن الجهل بشئ من ذلك، أو الشك، أو الريب فيه، والعصمة من كل ما يضاد المعرفة بذلك واليقين، هذا ما وقع إجماع المسلمين عليه، ولا يصح بالبراهين الواضحات أن يكون في عقول الأنبياء سواه، ولا يعترض على هذا بقول إبراهيم عليه السلام: ﴿قال بلى ولكن يطمئن قلبي﴾ (1) إذا لم يشك إبراهيم في إخبار الله - تعالى - بإحياء الموتى، ولكن أراد طمأنينة القلب، وترك المنازعة، ومشاهدة الإحياء، فحصل له العلم الأول بوقوعه، وأراد العلم الثاني بكيفيته ومشاهدته.
الوجه الثاني: أن إبراهيم - عليه السلام - إنما أراد اختيار منزلته عند ربه - تعالى - وعلم إجابته دعوته بسؤال ذلك من ربه، ويكون قوله: أو لم تؤمن أي تصدق بمنزلتك مني وخلتك واصطفائك؟
الوجه الثالث: أنه سأل زيادة يقين وقوة طمأنينة وإن لم يكن في الأول شك إذا العلوم الضرورية والنظرية قد تتفاضل في قوتها وطرئان الشكوك على الضروريات ممتنع، ومجوز في النظريات، فأراد الانتقال من النظر والخبر إلى المشاهدة، والترقي من علم اليقين إلى عين اليقين، فليس الخبر كالمعاينة، ولهذا قال: سهل بن عبد الله: سال كشف غطاء العيان، ليزداد بنور اليقين تمكنا في حاله.