وأما شفاؤه رضي الله تبارك وتعالى عنه من رمد ببصاق الرسول صلى الله عليه وسلم ودعائه له فخرج البخاري (1) ومسلم (2) والنسائي من حديث يعقوب بن عبد الرحمن بن أبي حازم قال: أخبرني سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر:
(١) (فتح الباري): ٧ / ٦٠٥، كتاب المغازي، باب (٣٩) غزوة خيبر، حديث رقم (٤٢١٠)، قوله: " لأعطين الراية غدا أو ليأخذن، الراية غدا " هو شك من الراوي، والراية يم، عنى اللواء، وهو العلم الذي الحرب، يعرف به موضع صاحب الجيش، وقد يحمله أمير الجيش، وقد يدفعه لمقدم العسكر.
(٢) من فضائل علي بن أبي طالب - رضي الله تبارك وتعالى عنه - وقد صرح جماعة من أهل اللغة بترادفهما، ولكن روى أحمد والترمذي من حديث ابن عباس: " كانت راية رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء ولواؤه أبيض " مثلة، عند الطبراني، عن بريدة و، عند ابن عدي، عن أبي هريرة وزاد " مكتوبا فيه لا إله إلا الله محمد رسول الله "، وهو ظاهر في التغاير، فلعل التفرقة بينهما عرفية، وقد ذكر ابن إسحاق وكذا أبو الأسود، عن عروة أن أول ما وجدت الرايات يوم خيبر، وما كانوا يعرفون قبل ذلك إلا الأولوية ".
قوله: (يحبه الله ورسوله) زاد في حديث سهل بن سعد " ويحب الله ورسوله "، وفي رواية ابن إسحاق " ليس بفرار، " وفي حديث بريدة " لا يرجع حتى يفتح الله له ".
قوله: (فنحن نرجوها) في حديث سهل " فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها " وقوله: " يدوكون " بمهملة مضمومة أي باتوا في اختلاط واختلاف، والدوكة بالكاف: الاختلاط و، عند مسلم من حديث أبي هريرة " إن عمر قال: ما أحببت الإمارة إلا يومئذ "، وفي حديث بريدة " فما منا رجل له منزلة، عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا وهو يرجوا أن يكون ذلك الرجل، حتى تطاولت أنا لها، فدعا عليا وهو يشتكي عينه فمسحها، ثم دفع إليه اللواء، " ولمسلم من طريق إياس بن سلمة، عن أبيه، قال: " فأرسلني إلى علي قال: فجئت به أقوده أرمد فبزق في عينه، فبرأ " قوله: (فقيل هذا علي) كذا وقع مختصرا، وبيانه في رواية إياس بن سلمة، عند مسلم، وفي حديث سهل بن سعد الذي بعده " فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجوا أن يعطاها، فقال: أين علي بن أبي طلب؟ قالوا: يشتكي عينيه، قال: فأرسلوا إليه، فأتوا به " وقد ظهر من حديث سلمة بن الأكوع أنه هو الذي أحضره، ولعل عليا حضر إليهم بخيبر ولم يقدر على مباشرة القتال لرمده، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم فحضر من المكان الذي نزل به، أو بعث إليه إلى المدينة فصادف حضوره.
قوله: (فبرأ) بفتح الراء والهمزة بوزن ضرب، ويجوز كسر الراء بوزن علم، وعند الحاكم من حديث علي نفسه قال: " فوضع رأسي في حجره، ثم بزق في ألية راحته، فدلك بها عيني "، وعند بريدة في " الدلائل البيهقي " فما وجعها علي حتى مضى لسبيله " أي مات، عند الطبراني من حديث علي: " فما رمدت ولا صدعت منذ دفع النبي صلى الله عليه وسلم إلى الراية يوم خيبر "، وله من وجه آخر " فما اشتكيتها حتى الساعة، قال: ودعا لي فقال: اللهم أذهب، عنه الحر والقر، قال فما اشتكيتهما حتى يومي هذا ".
قوله: (فأعطاه ففتح عليه) في حديث سهل " فأعطاه الراية "، وفي حديث أبي سعيد، عند أحمد " فانطلق حتى يفتح الله عليه خيبر وفدك، وجاء بعجوتهما " وقد اختلف في فتح خيبر هل كان، عنوة أو صلحا، وفي حديث عبد العزيز بن صهيب، عن أنس التصريح بأنه كان، عنوة وبه جزم ابن عبد البر، ورد على من قال فتحت صلحا قال: وإنما دخلت الشبهة على من قال فتحت صلحا بالحصنين اللذين أسلمهما أهلهما لحقن دمائم، وهو ضرب من الصلح لكن لم يقع ذلك إلا بحصار وقتال. انتهى.
والذي يظهر أن الشبهة في ذلك قول ابن عمر ": إن النبي صلى الله عليه وسلمقاتل أهل خيبر، فغلب على النخل وألجأهم إلى القصر، فصالحوه على أن يجلوا منها، وله الصفراء والبيضاء والحلقة، ولهم ما حملت ركابهم على أن لا يكتموا ولا يغيبوا " الحديث وفي آخره " فسبى نساءهم وذريتهم، وقسم أموالهم للنكث الذي نكثوا، وأراد أن يجليهم فقالوا: دعنا في هذه الأرض نصلحها " الحديث أخرجه أبو داود والبيهقي وغيرهما، وكذلك أخرجه أبو الأسود في المغازي، عن عروة، فعلى هذا كان قد وقع الصلح، ثم حدث النقض منهم فزال أثر الصلح، ثم من عليهم بترك القتل وإبقائهم عمالا بالأرض ليس لهم فيها ملك، ولذلك أجلاهم عمر - كما تقدم في فتح فرض الخمس احتجاج الطحاوي على أن بعضها صلحا بما أخرجة هو وأبو داود من طريق بشير بن يسار ": أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قسم خيبر عزل نصفها لنوائبه، وقسم نصفها بين المسلمين " وهو حديث اختلف في وصله وإرساله، وهو ظاهر في أن بعضها فتح صلحا، والله أعلم.
قوله: في حديث سهل (فقالوا علي يا رسول الله، أقاتلهم) هو بحذف همزة الاستفهام.
قوله: (حتى يكونوا مثلنا) أي حتى يسلموا قوله: (فقال انفذ) بضم الفاء بعدها معجمة.
قوله: (على رسلك) بكسر الراء أي على هينتك.
قوله: (ثم ادعهم إلى الإسلام) ووقع في حديث أبي هريرة، عند مسلم " فقال علي يا رسول الله علام أقاتل الناس؟ قال: قاتلهم حتى يشهدوا أن إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله " واستدل بقوله: " ادعهم " أن الدعوة شرط في جوازالقتال، والخلاف في ذلك مشهور فقيل:
يشترط مطلقا، وهو، عن مالك سواء من بلغتهم الدعوة أولم تبلغهم، قال: إلا أن يعجلوا المسلمين، وقيل: لا مطلقا و، عن الشافعي مثله، وعنه لا يقاتل من لم تبلغهم حتى يدعوهم، وأما من بلغته فتجوز الإغارة عليهم بغير دعاء، وهو مقتضى الأحاديث، ويحمل ما في حديث سهل على الاستحباب بدليل أن في حديث أنس أنه صلى الله عليه وسلم أغار على أهل خيبر لما لم يسمع النداء، وكان ذلك أول ما طرقهم، وكانت قصة علي بعد ذلك، وعن الحنفية تجوز الإغارة عليهم مطلقا وتستحب الدعوة.
قوله: (فوالله لإن يهدي الله بك رجلا إلخ) يؤخذ منه تألف الكافر حتى يسلم أولى من المبادرة إلى قتله (فتح الباري)، هي الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب، يضربون بها المثل في نفاسة الشئ وأنه ليس هناك أعظم منه، وقد سبق بيان أن تشبيه أمور الآخرة بأعراض الدنيا، وإنما هو التقريب من الأفهام، وإلا فذرة من الآخرة الباقية خير من الأرض بأسرها وأمثالها معها لو تصورت، وفي هذا الحديث بيان فضيلة العلم والدعاء إلى الهدى وسن السنن الحسنة (شرح النووي).