وأما تمتع النابغة (1) بأسنانه وقد نيف على المائة عام بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم له بذلك
(١) هو النابغة الجعدي الشاعر المشهور المعمر، اختلف في اسمه، فقيل: هو قيس بن عبد الله بن عبس بن ربيعة بن جعدة، وقيل بدل عدس: وحوح. وجعدة هو ابن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة، وقيل: سمي النابغة عبد الله، وقيل: حبان بن قيس بن عبد الله بن قيس، وقيل بتقديم قيس على عبد الله وبه جزم القحذمي، وأبو الفرج الأصبهاني، وبالأول جزم ابن الكلبي، وأبو حاتم السجستاني، وأبو عبيدة، ومحمد بن سلام الجمحي، وغيرهم، وحكاه البغوي عنه، وحكى أبو الفرج الأصبهاني أنه غلط، لأنه كان له أخ اسمه وحوح بن قيس قتل في الجاهلية، فرثاه النابغة. قال الحافظ ابن حجر: ويحتمل أن يكون وحوح أخاه لأمه، وقد أخرج الحسن بن سفيان في مسنده عن أبي وهب الوليد بن عبد الملك، عن يعلى بن الأشدق: حدثني قيس بن عبد الله بن عدس بن ربيعة، نابغة بني جعدة، فذكر حديثا، قال أبو الفرج: أقام مدة لا يقول الشعر، ثم قاله، فقيل: نبغ، وقيل: كان يقول الشعر ثم تركه في الجاهلية ثم عاد إليه بعد أن أسلم فقيل: نبغ. وقال القحذمي: كان النابغة قديما شاعرا مغلقا طويل العمر في الجاهلية وفي الإسلام، قال: وكان أسن من النابغة الذبياني، ومن شعره الدال على طول عمره:
* ألا زعمت بنو أسد بأني * أبو ولد كبير السن فاني فمن يك سائلا عني فإني * من الفتيان أيام الخنان أتت مائة عام ولدت فيه * وعشر بعد ذاك وحجتان وقد أبقت صروف الدهر مني * كما أبقت من السيف اليماني وقال أبو حاتم السجستاني في كتاب (المعمرين): عاش مائتي سنة، وهو القائل:
قال أمامة كم عمرت زمانة * وذبحت من عتر على الأوثان ولقد شهدت عكاظ قبل محلها * فيها وكنت أعد في الفتيان والمنذر بن محرق في ملكه * وشهدت يوم هجائن النعمان وعمرت حتى جاء أحمد بالهدى * وقوارع تتلى من القرآن ولبست في الإسلام ثوبا واسعا * من سيب لا حرم ولا منان قال ابن عبد البر: استدلوا بهذا على أنه كان أسن من النابغة الذبياني لأنه ذكر أنه شهد المنذرين بن محرق، والنابغة إنما أدرك النعمان بن المنذر، وتقدمت وفاة النابغة الذبياني قبله بمدة ولذلك كان يظن أن النابغة الذبياني أكبر من الجعدي. وذكر عمر بن شبة عن أشياخه أنه عمر مائة وثمانين سنة، وأنه أنشد عمر بن الخطاب - رضي الله تبارك وتعالى عنه:
* لبست أناسا فأفنيتهم * وأفنيت بعد أناس أناسا ثلاثة أهلين أفنيتهم * وكان الإله هو المستاسا فقال له عمر - رضي الله تبارك وتعالى عنه: كم لبثت مع كل أهل؟ قال: ستين سنة وقال ابن قتيبة: عمر بعد ذلك إلى زمن ابن الزبير، ومات بأصبهان وله مائتان وعشرون سنة، وذكر المرزباني نحوه إلا قدر عمره، وزاد أنه كان من أصحاب علي وله مع معاوية أخبار، وعن الأصمعي أنه عاش مائتين وثلاثين سنة. وروينا في كتاب الحاكم من طريق النضر بن شميل، أنه سئل عن أكبر شيخ لقيه المنتجع الأعرابي، قال: قلت له: من أكبر من لقيت؟
قال: النابغة الجعدي، قال: قلت له: كم عشت في الجاهلية؟ قال: دارين. قال النضر:
يعني مائتي سنة، وقال أبو عبيدة معمر بن المثني: كان النابغة ممن فكر في الجاهلية، وأنكر الخمر والسكر، وهجر الأزلام، واجتنب الأوثان، وذكر دين إبراهيم، وهو القائل القصيدة التي فيها:
الحمد لله لا شريك له * من لم يقلها فنفسه ظلما قال أبو عمر: في هذه القصيدة ضروب من التوحيد، والاقرار بالبعث، والجزاء، والجنة، والنار، على نحو شعر أمية بن أبي الصلت، وقد قيل: إنها لامية، لكن صحح حماد الرواية، ويونس بن حبيب، ومحمد بن سلام الجمحي، وعلي بن سليمان الأخفش للنابغة قرأت على علي بن محمد الدمشقي بالقاهرة، عن سليمان بن حمزة، أنبأنا أبو النصر الطوسي، أنبأنا أبو طاهر المخلص، حدثنا أبو القاسم البغوي، حدثنا داود بن رشيد، حدثنا يعلي بن الأشدق، قال: سمعت النابغة الجعدي يقول: أنشدت النبي صلى الله عليه وسلم بلغنا السماء مجدنا وجدودنا... وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا فقال: أين المظهر يا أبا ليلى؟ قلت: الجنة. قال: أجل - إن شاء الله تعالى، ثم قال:
ولا خير في حلم إذا لم يكن له بوادر تحمى صفوه أن يكدرا * ولا خير في جهل إذا لم يكن له * حليم إذا ما أورد الأمر أصدرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضض الله فاك، مرتين، وهكذا أخرجه البزار، والحسن بن سفيان في (مسنديهما)، وأبو نعيم في (تاريخ أصبهان)، والشيرازي في (الألقاب)، وكلهم من رواية يعلي بن الأشدق، قال: وهو ساقط الحديث.
قال أبو نعيم: رواه عن يعلى جماعة، منهم هاشم بن القاسم الحراني، وأبو بكر الباهلي:
فقد وقعت لنا قصة في غريب الحديث للخطابي: وفي كتاب (العلم) للمرهبي، وغيرهما، ومن طريق مهاجر بن سليم، عن عبد الله بن جراد: سمعت نابغة بني جعدة يقول: أنشدت النبي صلى الله عليه وسلم قولي:
* علونا السماء مجدنا وجدودنا * البيت فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: أين المظهر يا أبا ليلى؟ قلت: الجنة، قال: أجل - إن شاء الله - ثم قال: أنشدني من قولك. فأنشدته البيتين:
* ولا خير في حلم إذا لم يكن له * فقال لي: أجدت، ولا يفضض الله فاك، فرأيت أسنانه كالبرد المنهل، فما انقصمت له سن، ولا انفلت، ورويناه في (المؤتلف والمختلف) الدارقطني، وفي (الصحابة) لابن السكن، وفي غيرهما من طريق الرحال بن المنذر: حدثني أبي عن أبيه كرز بن أسامة، وكانت له وفادة مع النابغة الجعدي، فذكرها بنحوه، ورويناها في (الأربعين البلدانية) للسلفي، من طريق أبي عمرو ابن العلاء، عن نصر بن عاصم الليثي، عن أبيه: سمعت النابغة يقول: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشدته قولي:
* بلغنا السماء مجدنا وجدودنا * فقال: إلى أين يا أبا ليلى؟ قال: إلى الجنة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - إن شاء الله - فلما أنشدته:
* ولا خير في حلم إذا لم يكن له * * ولا خير في جهل إذا لم يكن له * فقال لي: صدقت، لا يفضض الله فاك، فبقي عمره أحسن الناس ثغرا، كلما سقطت سن عادت أخرى، فكان معمرا، ورويناه في (مسند الحارث بن أبي أسامة)، ومن طريق الحسن ابن عبيد الله العنبري، قال: حدثني من سمع النابغة الجعدي يقول: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشدته:
وإنا لقوم ما نعود خيلنا * إذا ما التقينا أن تحيد وتنفرا وننكر يوم الروع ألوان خيلنا * من الطعن حتى نحسب الجون أشقرا وليس بمعروف لنا أن نردها * صحاحا ولا مستنكرا أن تعقرا ورويناها مسلسلة بالشعراء من رواية دعبل بن علي الشاعر، عن أبي نواس عن والبة بن الحباب، عن الفرزدق، عن الطرماح، عن النابغة، وهي في كتاب (الشعراء) لأبي زرعة الرازي المتأخر، وقد طولت ترجمته في كتاب (من جاوز المائة) مما دار بينه وبين من هاجاه من الماجريات كليلي الأخيلية صاحبة توبة، وأوس المزني، وغيرهما. وذكر أبو نعيم في (تاريخ أصبهان)، أنه قيس بن عبد الله، وأنه مات بأصبهان، قال: وكان معاوية سيره إليها مع الحارث بن عبد الله بن عبد عوف بن أصرم، وكان ولي أصبهان من قبل علي، ثم أسند من طريق الأصمعي، عن هانئ بن عبد الله، عن أبيه، عن عبد الله بن صفوان، قال: عاش النابغة، مائة وعشرين سنة. قال ابن عبد البر: قصيدة النابغة مطولة نحو مائتي بيت، أولها:
* خليلي غضاعة وتهجرا * ولوما على ما أحدث الدهر أو ذرا يقول فيها:
أتيت رسول الله إذا جاء بالهدى * ويتلو كتابا كالمجرة نيرا ومنها:
وجاهدت حتى ما أحس ومن معي * سهيلا إذا ما لاح ثم تحورا أقيم على التقوى وأرضى بفعلها * وكنت من النار المخوفة أحذرا ثم أورد أبو عمر بإسناده إلى أبي الفرج الرياشي منها أربعة وعشرين بيتا، وذكر عمر بن شبة عن مسلمة بن محارب، أن النابغة الجعدي دخل على علي فذكر قصة، وذكر أبو نعيم في (تاريخ أصبهان): وأخرج ابن أبي خثيمة في تاريخه عن الزبير بن بكار، وحدثني أخي هارون ابن أبي بكر، عن يحيى بن أبي قتيلة، عن سليمان بن محمد بن يحيى بن عروة، عن أبيه، عن عمه عبد الله بن عروة قال: ألحت السنة على نابغة بني جعدة، فدخل على ابن الزبير في المسجد الحرام، فأنشده:
حكيت لنا الصديق لما وليتنا * وعثمان والفاروق فارتاح معدم وسويت بين الناس في الحق فاستووا * فعاد صباحا حالك الليل مظلم أتاك أبو ليل تجوب به الدجى * دجى الليل جواب الفلاة عرمرم لجبر منه جانبا دعدعت به * صروف الليالي والزمان المصمم فقال ابن الزبير: هون عليك يا أبا ليلى فإن الشعر أيسر وسائلك عندنا، لك في مال الله حقان: لرؤيتك رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق لشركتك أهل الإسلام في فيئهم، ثم أخذ بيده، فدخل به دار النعم، وأعطاه فجعل النابغة يستعجل ويأكل الحب صرفا، فقال ابن الزبير: ويح أبي ليلى لقد بلغ به الجهد، فقال النابغة: أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ما وليت فعدلت، واسترحمت فرحمت، وحدثت فصدقت، ووعدت خيرا فأنجزت، فإنا والنبيون فراط التابعين، [يريد أنهم يتقدمون الأمم إلى الجنة، وهم على إثره متدافعين ومزدحمين]، وقد وقع لنا عاليا جدا من حديث ابن الزبير موافقة: قرأت على فاطمة بنت محمد بن المنجي بدمشق، عن سليمان بن حمزة، أنبأنا محمود بن إبراهيم في كتابه، أنبأنا مسعود بن الحسن، أنبأنا أبو بكر السمسار، أنبأنا أبو إسحاق بن خرشة، أنبأنا أبو الحسن المخزومي، حدثنا الزبير بن بكار، به بتمامه، وأخرجه ابن جرير في (تاريخه)، عن ابن أبي خثيمة، وأخرجه أبو الفرج الأصبهاني في (الأغاني) عن ابن جرير. وأخرجه ابن أبي عمر في (مسنده)، عن هارون. وأخرجه ابن السكن، عن محمد بن إبراهيم الأنماطي، والطبراني في (الصغير)، عن حسين بن الفهم، وأبو الفرج الأصبهاني، عن حرمي بن العلاء، ثلاثتهم عن الزبير، فوقع لنا بدلا عاليا.
وأخرج أبو نعيم عن الطبراني طرفا منه (الإصابة): 6 / 391 - 398، ترجمة رقم (8645)، (الإستيعاب): 4 / 1514 - 1522، ترجمة رقم (2648)، (الشعر والشعراء): 177 - 181، (المؤتلف والمختلف للدار قطني): 4 / 1957، 2168.