بمجلس لذة لم نقف فيه * على شكوى ولا عيب الذنوب فخشينا أن نقطعه بلفظ * فترجمت العيون عن القلوب قلت له: زدني، قال، أما من هذا فحسبك ولكن أنشدك غيره فأنشدني:
وكنت إذا عقدت حبال قوم * صحبتهم وشيمتي الوفاء فأحسن حين يحسن محسنوهم * وأجتنب الإساءة إن أساؤوا أشاء سوى مشيئتهم فآتي * مشيئتهم وأترك ما أشاء قال ابن خلكان: كان جرير أشعر من الفرزدق عند الجمهور، وأفخر بيت قاله جرير:
إذا غضبت عليك بنو تميم * حسبت الناس كلهم غضابا قال وقد سأله رجل: من أشعر الناس؟ فأخذ بيده وأدخله على ابنه، وإذا هو يرتضع من ثدي عنز، فاستدعاه فنهض واللبن يسيل على لحيته، فقال جرير للذي سأله: أتبصر هذا؟ قال: نعم، قال: أتعرفه؟ قال: لا، قال: هذا أبي، وإنما يشرب من ضرع العنز لئلا يحلبها فيسمع جيرانه حس الحلب فيطلبوا منه لبنا، فأشعر الناس من فاخر بهذا ثمانين شاعرا فغلبهم، وقد كان بين جرير والفرزدق مقاولات ومهاجاة كثيرة جدا يطول ذكرها، وقد مات في سنة عشر ومائة، قاله خليفة بن خياط وغير واحد، قال خليفة: مات الفرزدق وجرير بعده بأشهر، وقال الصولي: ماتا في سنة إحدى عشرة ومائة، ومات الفرزدق قبل جرير بأربعين يوما، وقال الكريمي عن الأصمعي عن أبيه قال: رأى رجل جريرا في المنام بعد موته فقال له: ما فعل الله بك؟ فقال: غفر لي، فقيل: بماذا؟
قال بتكبيرة كبرتها بالبادية، قيل له: فما فعل الفرزدق؟ قال أيهات أهلكه قذف المحصنات. قال الأصمعي لم يدعه في الحياة ولا في الممات.
وأما الفرزدق واسمه همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم (1) بن حنظلة بن زيد بن مناة بن مر بن أد بن طابخة أبو فراس بن أبي خطل التميمي البصري الشاعر المعروف بالفرزدق، وجده صعصعة بن ناجية صحابي، وفد إلى رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وكان يحيي الموؤودة في الجاهلية، حدث الفرزدق عن علي أنه ورد مع أبيه عليه، فقال من هذا؟ قال ابني وهو شاعر، قال علمه القراءة فهو خير له من الشعر. وسمع الفرزدق الحسين بن علي ورآه وهو ذاهب إلى العراق وأبا هريرة وأبا سعيد الخدري وعرفجة بن أسعد، وزرارة بن كرب، والطرماح بن عدي الشاعر، وروى عنه خالد الحذاء ومروان الأصغر وحجاج بن حجاج الأحول، وجماعة، وقد وفد على معاوية يطلب ميراث عمه الحباب، وعلى الوليد بن عبد الملك وعلى أخيه، ولم يصح ذلك،