وحكى نفطويه أن جريرا دخل يوما على بشر بن مروان وعنده الأخطل، فقال بشر لجرير:
أتعرف هذا؟ قال: لا، ومن هذا أيها الأمير؟ فقال: هذا الأخطل، فقال الأخطل، أنا الذي قذفت عرضك، وأسهرت ليلك، وآذيت قومك، فقال جرير: أما قولك شتمت عرضك فما ضر البحر أن يشتمه من غرق فيه، وأما قولك وأسهرت ليلك، فلو تركتني أنام لكان خيرا لك، وأما قولك وآذيت قومك فكيف تؤذي قوما أنت تؤدي الجزية إليهم؟ وكان الأخطل من نصارى العرب المتنصرة، قبحه الله وأبعد مثواه، وهو الذي أنشد بشر بن مروان قصيدته التي يقول فيها:
قد استوى بشر على العراق * من غير سيف ودم مهراق وهذا البيت تستدل به الجهمية على أن الاستواء على العرش بمعني الاستيلاء، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه، وليس في بيت هذا النصراني حجة ولا دليل على ذلك، ولا أراد الله عز وجل باستوائه على عرشه استيلاءه عليه، تعالى الله عن قول الجهمية علوا كبيرا. فإنه إنما يقال استوى على الشئ إذ كان ذلك الشئ عاصيا عليه قبل استيلائه عليه، كاستيلاء بشر على العراق، واستيلاء الملك على المدينة بعد عصيانها عليه، وعرش الرب لم يكن ممتنعا عليه نفسا واحدا، حتى يقال استوى عليه، أو معنى الاستواء الاستيلاء، ولا تجد أضعف من حجج الجهمية، حتى أداهم الافلاس من الحجج إلى بيت هذا النصراني المقبوح وليس فيه حجة والله أعلم.
وقال الهيثم بن عدي عن عوانة بن الحكم قال: لما استخلف عمر بن عبد العزيز وفد إليه الشعراء فمكثوا ببابه أياما لا يؤذن لهم ولا يلتفت إليهم، فساءهم ذلك وهموا بالرجوع إلى بلادهم، فمر بهم رجاء بن حياة فقال له جرير: - يا أيها الرجل المرخي عمامته * هذا زمانك فاستأذن لنا عمرا فدخل ولم يذكر لعمر بن أمرهم شيئا، فمر بهم عدي بن أرطأة فقال له جرير منشدا:
يا أيها الراكب المرخي مطيته * هذا زمانك إني قد مضى زمني أبلغ خليفتنا إن كنت لاقيه * أني لدى الباب كالمصفود في قرن لا تنس حاجتنا لا قيت مغفرة * قد طال مكثي عن أهلي وعن وطني فدخل عدي على عمر بن عبد العزيز فقال: يا أمير المؤمنين الشعراء ببابك وسهامهم مسمومة وأقوالهم نافذة، فقال: ويحك يا عدي، مالي وللشعراء، فقال: يا أمير المؤمنين إن رسول الله (صلى الله عليه وسلم) قد كان يسمع الشعر ويجزي عليه، وقد أنشده العباس بن مرداس مدحه فأعطاه حلة، فقال له عمر: أتروي منها شيئا؟ قال: نعم فأنشده: - رأيتك يا خير البرية كلها * نشرت كتابا جاء بالحق معلما