وقد لقي مسلمة في حصاره القسطنطينية شدة عظيمة، وجاع المسلمون عندها جوعا شديدا، فلما ولي عمر بن عبد العزيز أرسل إليهم البريد يأمرهم بالرجوع إلى الشام، فحلف مسلمة أن لا يقلع عنهم حتى يبنوا له جامعا كبيرا بالقسطنطينية، فبنوا له جامعا ومنارة، فهو بها إلى الآن يصلي فيه المسلمون الجمعة والجماعة، قلت: وهي آخر ما يفتحه المسلمون قبل خروج الدجال في آخر الزمان، كما سنورده في الملاحم والفتن من كتابنا هذا إن شاء الله. ونذكر الأحاديث الواردة في ذلك هناك، وبالجملة كانت لمسلمة مواقف مشهورة، ومساعي مشكورة، وغزوات متتالية منثورة، وقد افتتح حصونا وقلاعا، وأحيا بعزمه قصورا وبقاعا، وكان في زمانه في الغزوات نظير خالد بن الوليد في أيامه، في كثرة مغازيه، وكثرة فتوحه، وقوة عزمه، وشده بأسه، وجودة تصرفه في نقضه وإبرامه.
وهذا مع الكرم والفصاحة، وقال يوما لنصيب الشاعر: سلني، قال: لا، قال: ولم؟ قال: لان كفك بالجزيل أكثر من مسألتي باللسان. فأعطاه ألف دينار. وقال أيضا: الأنبياء لا يتنابون كما يتناب الناس من ناب نبي قط وقد أوصى بثلث ماله لأهل الأدب، وقال: إنها صنعة جحف أهلها.
وقال الوليد بن مسلم وغيره: توفي يوم الأربعاء لسبع مضين من المحرم سنة إحدى وعشرين ومائة، وقيل في سنة عشرين ومائة، وكانت وفاته بموضع يقال له الحانوت، وقد رثاه بعضهم، وهو ابن أخيه الوليد بن يزيد بن عبد الملك فقال:
أقول وما العبد إلا الردى * أمسلم لا تبعدن مسلمه فقد كنت نورا لنا في البلاد * مضيئا فقد أصبحت مظلمة ونكتم موتك نخشى اليقين * فأبدى اليقين لنا الجمجه نمير بن قيس (1) الأشعري قاضي دمشق، تابعي جليل، روى عن حذيفة مرسلا وأبي موسى مرسلا وأبي الدرداء وعن معاوية مرسلا وغير واحد من التابعين، وحدث عنه جماعة كثيرون، منهم الأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز ويحيى بن الحارث الذماري. ولاه هشام بن عبد الملك القضاء بدمشق بعد عبد الرحمن بن الخشخاش العذري، ثم استعفى هشاما فعفاه وولى مكانه يزيد بن عبد الرحمن بن أبي ملك. وكان نمير هذا لا يحكم باليمين مع الشاهد، وكان يقول: الأدب من الآباء، والصلاح من الله. قال غير واحد: توفي سنة إحدى وعشرين ومائة، وقيل سنة ثنتين وعشرين ومائة، وقيل سنة خمس عشرة ومائة، وهو غريب والله سبحانه أعلم.