يجد مثلا أن من المقرر فقهيا أن وقت الصوم يبدأ من طلوع الفجر ولا يجب الصوم قبل ذلك، وكذلك من الثابت في الفقه أن المكلف إذا أجنب في ليلة الصيام فيجب عليه أن يغتسل قبل الفجر لكي يصح صومه، لان الغسل من الجنابة مقدمة للصوم، فلا صوم بدونه، كما أن الوضوء مقدمة للصلاة ولا صلاة بدون وضوء.
ويحاول الفقيه بطبيعة الحال أن يدرس هذه الأحكام الفقهية على ضوء تلك المقررات الأصولية، فيجد نفسه في تناقض، لان الغسل وجب على المكلف فقهيا قبل مجئ وقت الصوم، بينما يقرر علم الأصول أن مقدمة كل شئ إنما تجب في ظرف وجوب ذلك الشئ ولا تجب قبل وقته. وهكذا يرغم الموقف الفقهي الفقيه أن يراجع من جديد النظرية الأصولية ويتأمل في طريقة للتوفيق بينهما وبين الواقع الفقهي، وينتج عن ذلك تولد أفكار أصولية جديدة بالنسبة إلى النظرية تحددها أو تعمقها وتشرحها بطريقة جديدة تتفق مع الواقع الفقهي.
وهذا المثال مستمد من الواقع، فإن مشكلة تفسير وجوب الغسل قبل وقت الصوم تكشفت من خلال البحث الفقهي، وكان أول بحث فقهي استطاع أن يكشف عنها هو بحث ابن إدريس في السرائر، وإن لم يوفق لعلاجها.
وأدى اكتشاف هذه المشكلة إلى بحوث أصولية دقيقة في طريق التوفيق بين المقررات الأصولية السابقة والواقع الفقهي، وهي البحوث التي يطلق عليها اليوم اسم بحوث المقدمات المفوتة.
2 - علم الكلام، فقد لعب دورا مهما في تموين الفكر الأصولي وإمداده، وبخاصة في العصر الأول والثاني، لان الدراسات الكلامية كانت منتشرة وذات نفوذ كبير على الذهنية العامة لعلماء المسلمين حين بدأ علم