الرابعة - قال الإمام أبو عبد الله المازري: ذهب جمهور العلماء من السلف وغيرهم إلى أن كل ما يسكر نوعه حرم شربه، قليلا كان أو كثيرا نيئا، كان أو مطبوخا، ولا فرق بين المستخرج من العنب أو غيره، وأن من شرب شيئا من ذلك حد، فأما المستخرج من العنب المسكر النئ فهو الذي انعقد الاجماع على تحريم قليله وكثيره ولو نقطة منه. وأما ما عدا ذلك فالجمهور على تحريمه. وخالف الكوفيون في القليل مما عدا ما ذكر، وهو الذي لا يبلغ الاسكار، وفي المطبوخ المستخرج من العنب، فذهب قوم من أهل البصرة إلى قصر التحريم على عصير العنب، ونقيع الزبيب النئ، فأما المطبوخ منهما، والنئ والمطبوخ مما سواهما فحلال ما لم يقع الاسكار. وذهب أبو حنيفة إلى قصر التحريم على المعتصر من ثمرات النخيل والأعناب على تفصيل، فيرى أن سلافة العنب يحرم قليلها وكثيرها إلا أن تطبخ حتى ينقص ثلثاها، وأما نقيع الزبيب والتمر فيحل مطبوخهما وإن مسته النار مسا قليلا من غير اعتبار بحد، وأما النئ منه فحرام، ولكنه مع تحريمه إياه لا يوجب الحد فيه، وهذا كله ما لم يقع الاسكار، فإن وقع الاسكار استوى الجميع. قال شيخنا الفقيه الإمام أبو العباس [أحمد] (1) رضي الله عنه: العجب من المخالفين في هذه المسألة، فإنهم قالوا: إن القليل من الخمر المعتصر من العنب حرام ككثيره، وهو مجمع عليه، فإذا قيل لهم: فلم حرم القليل من الخمر وليس مذهبا للعقل؟ فلا بد أن يقال: لأنه داعية إلى الكثير، أو للتعبد، فحينئذ يقال لهم: كل ما قدرتموه في قليل الخمر هو بعينه موجود في قليل النبيذ فيحرم أيضا، إذ لا فارق بينهما إلا مجرد الاسم إذا سلم ذلك. وهذا القياس هو أرفع أنواع القياس، لان الفرع فيه مساو للأصل في جميع أوصافه، وهذا كما يقوله في قياس الأمة على العبد في سراية العتق. ثم العجب من أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله! فإنهم يتوغلون في القياس ويرجحونه على أخبار الآحاد، ومع ذلك فقد تركوا هذا القياس الجلي المعضود بالكتاب والسنة وإجماع صدور الأمة، لأحاديث لا يصح شئ منها على ما قد بين عللها المحدثون في كتبهم، وليس في الصحيح شئ منها. وسيأتي في سورة " النحل " (2) تمام هذه المسألة إن شاء الله تعالى.
(٢٩٥)