كأنه قيل: فلم يطيعوه إلا قليل منهم.
المسألة الثانية: قد ذكرنا أن المقصود من هذا الابتلاء أن يتميز الصديق عن الزنديق، والموافق عن المخالف، فلما ذكر الله تعالى أن الذين يكونون أهلا لهذا القتال هم الذين لا يشربون من هذا النهر، وأن كل من شرب منه فإنه لا يكون مأذونا في هذا القتال، وكان في قلبهم نفرة شديدة عن ذلك القتال، لا جرم أقدموا على الشرب، فتميز الموافق عن المخالف، والصديق عن العدو، ويروى أن أصحاب طالوت لما هجموا على النهر بعد عطش شديد، وقع أكثرهم في النهر، وأكثروا الشرب، وأطاع قوم قليل منهم أمر الله تعالى، فلم يزيدوا على الاغتراف، وأما الذين شربوا وخالفوا أمر الله فاسودت شفاههم وغلبهم العطش ولم يرووا، وبقوا على شط النهر، وجبنوا على لقاء العدو، وأما الذين أطاعوا أمر الله تعالى، فقوي قلبهم وصح إيمانهم، وعبروا النهر سالمين.
المسألة الثالثة: القليل الذي لم يشرب قيل: إنه أربعة آلاف، والمشهور وهو قول الحسن أنهم كانوا على عدد أهل بدر ثلثمائة وبضعة عشر وهم المؤمنون، والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم بدر: أنتم اليوم على عدة أصحاب طالوت حين عبروا النهر وما جاز معه إلا مؤمن، قال البراء بن عازب: وكنا يومئذ ثلثمائة وثلاثة عشر رجلا.
أما قوله: * (فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده) * ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: لا خلاف بين المفسرين أن الذين عصوا الله وشربوا من النهر رجعوا إلى بلدهم ولم يتوجه معه إلى لقاء العدو إلا من أطاع الله تعالى في باب الشرب من النهر، وإنما اختلفوا في أن رجوعهم إلى بلدهم كان قبل عبور النهر أو بعده، وفيه قولان الأول: أنه ما عبر معه إلا المطيع، واحتج هذا القائل بأمور الأول: أن الله تعالى قال: * (فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه) * فالمراد بقوله: * (الذين آمنوا معه) * الذين وافقوه في تلك الطاعة، فلما ذكر الله تعالى كل العسكر، ثم خص المطيعين بأنهم عبروا النهر، علمنا أنه ما عبر النهر أحد إلا المطيعين.
الحجة الثانية: الآية المتقدمة وهي قوله تعالى حكاية عن طالوت * (فمن شرب منه فليس مني) * أي ليس من أصحابي في سفري، كالرجل الذي يقول لغيره: لست أنت منا في هذا الأمر، قال: ومعنى * (فشربوا منه) * أي ليتسببوا به إلى الرجوع، وذلك لفساد دينهم وقلبهم.
الحجة الثالثة: أن المقصود من هذا الابتلاء أن يتميز المطيع عن العاصي والمتمرد، حتى يصرفهم عن نفسه ويردهم قبل أن يرتدوا عند حضور العدو، وإذا كان المقصود من هذا الابتلاء