أما قوله تعالى: * (ليحكم بين الناس) * فاعلم أنه قوله: * (ليحكم) * فعل فلا بد من استناده إلى شيء تقدم ذكره، وقد تقدم ذكر أمور ثلاثة، فأقربها إلى هذا اللفظ: الكتاب، ثم النبيون، ثم الله فلا جرم كان إضمار كل واحد منها صحيحا، فيكون المعنى: ليحكم الله، أو النبي المنزل عليه، أو الكتاب، ثم إن كل واحد من هذه الإحتمالات يختص بوجه ترجيح، أما الكتاب فلأنه أقرب المذكورات، وأما الله فلأنه سبحانه هو الحاكم في الحقيقة لا الكتاب، وأما النبي فلأنه هو المظهر فلا يبعد أن يقال: حمله على الكتاب أولى، أقصى ما في الباب أن يقال: الحاكم هو الله، فإسناد الحكم إلى الكتاب مجاز إلا أن نقول: هذا المجاز يحسن تحمله لوجهين الأول: أنه مجاز مشهور يقال: حكم الكتاب بكذا، وقضى كتاب الله بكذا، ورضينا بكتاب الله، وإذا جاز أن يكون هدي وشفاء، جاز أن يكون حاكما قال تعالى: * (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين) * (الإسراء: 9) والثاني: أنه يفيد تفخيم شأن القرآن وتعظيم حاله.
أما قوله تعالى: * (فيما اختلفوا فيه) * فاعلم أن الهاء في قوله: * (فيما اختلفوا فيه) * يجب أن يكون راجعا، إما إلى الكتاب، وإما إلى الحق، لأن ذكرهما جميعا قد تقدم، لكن رجوعه إلى الحق أولى، لأن الآية دلت على أنه تعالى إنما أنزل الكتاب ليكون حاكما فيما اختلفوا فيه فالكتاب حاكم، والمختلف فيه محكوم عليه، والحاكم يجب أن يكون مغايرا للمحكوم عليه.
أما قوله تعالى: * (وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه) * فالهاء الأولى راجعة إلى الحق والثانية: إلى الكتاب والتقدير: وما اختلف في الحق إلا الذين أوتوا الكتاب، ثم قال أكثر المفسرين: المراد بهؤلاء: اليهود والنصارى والله تعالى كثيرا ما يذكرهم في القرآن بهذا اللفظ كقوله: * (وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم) * (المائدة: 5) * (قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم) * (آل عمران: 64) ثم المراد باختلافهم يحتمل أن يكون هو تكفير بعضهم بعضا كقوله تعالى: * (وقالت اليهود ليست النصارى على شيء وقالت النصارى ليست اليهود على شيء وهم يتلون الكتاب) * (البقرة: 113) ويحتمل أن يكون اختلافهم تحريفهم وتبديلهم، فقوله: * (وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه) * أي وما اختلف في الحق إلا الذين أوتوا الكتاب مع أنه كان المقصود من إنزال الكتاب أن لا يختلفوا وأن يرفعوا المنازعة في الدين واعلم أن هذا يدل على أن الإختلاف في الحق لم يوجد إلا بعد بعثة الأنبياء وإنزال الكتب وذلك يوجب أن قبل بعثهم ما كان الإختلاف في الحق حاصلا، بل كان الإتفاق في الحق حاصلا وهو يدل على أن قوله تعالى: * (كان الناس أمة واحدة) * معناه أمة واحدة في دين الحق.
أما قوله تعالى: * (من بعد ما جاءتهم البينات) * فهو يقتضي أن يكون إيتاء الله تعالى إياهم الكتاب