كان المعنى أنه يصح من العبد أن يجمع بين عدم الفساد وبين العلم بوجود الفساد، فيلزم أن يكون قادرا على الجمع بين النفي والإثبات وهو محال.
أما قوله: * (ولكن الله ذو فضل على العالمين) * فالمقصود منه أن دفع الفساد بهذا الطريق إنعام يعم الناس كلهم، واحتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكل بقضاء الله تعالى، فقالوا: لو لم يكن فعل العبد خلقا لله تعالى، لم يكن دفع المحققين شر المبطلين فضلا من الله تعالى على أهل الدنيا لأن المتولي لذلك الدفع إذا كان هو العبد من قبل نفسه وباختياره ولم يكن لله تعالى * (ولكن الله ذو فضل على العالمين) * عقيب قوله: * (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض) * يدل على أنه تعالى ذو فضل على العالمين بسبب ذلك الدفع، فدل هذا على أن ذلك الدفع الذي هو فعلهم هو من خلق الله تعالى ومن تقديره.
فإن قالوا: يحمل هذا على البيان والإرشاد والأمر.
قلنا: كل ذلك قائم في حق الكفار والفجار ولم يحصل منه الدفع، فعلمنا أن فضل الله ونعمته علينا إنما كان بسبب نفس ذلك الدفع وذلك يوجب قولنا والله أعلم.
قوله تعالى * (تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين) *.
اعلم أن قوله: * (تلك) * إشارة إلى القصص التي ذكرها من حديث الألوف وإماتتهم وإحيائهم وتمليك طالوت، وإظهار الآية التي هي نزول التابوت من السماء، وغلب الجبابرة على يد داود وهو صبي فقير، ولا شك أن هذه الأحوال آيات باهرة دالة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته ورحمته.
فإن قيل: لم قال: * (تلك) * ولم يقل: (هذه) مع أن تلك يشار بها إلى غائب لا إلى حاضر؟.
قلنا: قد بينا في تفسير قوله: * (ذلك الكتاب لا ريب فيه) * (البقرة: 2) أن تلك وذلك يرجع إلى معنى هذه وهذا، وأيضا فهذه القصص لما ذكرت صارت بعد ذكرها كالشئ الذي انقضى ومضى، فكانت في حكم الغائب فلهذا التأويل قال: * (تلك) *.
أما قوله تعالى: * (نتلوها) * يعني يتلوها جبريل عليه السلام عليك لكنه تعالى جعل تلاوة جبريل عليه السلام تلاوة لنفسه، وهذا تشريف عظيم لجبريل عليه السلام، وهو كقوله: * (إن الذين