إن الدستور الأول هو التوجه إلى المعاد، فالدستور الأول يحيي في الإنسان قوة المراقبة، والثاني ينمي روح الثواب والعقاب، ولا شك أن الإنسان الذي يعلم أن شخصا خبيرا ومطلعا على كل أعماله يراه ويعلم به ويسجل كل أعماله، ومن ناحية أخرى يعلم أن محكمة عادلة ستتشكل للتحقيق في كل جزئيات أعماله، لا يمكن أن يتلوث بأدنى فساد ومعصية.
جملة لا يجزي من مادة الجزاء، و " الجزاء " ورد بمعنيين من الناحية اللغوية:
أحدهما: المكافأة والمعاقبة مقابل شئ، كما يقال: جزاه الله خيرا.
والآخر: الكفاية والنيابة والتحمل للشئ عن الآخرين، كما جاء في الآية مورد البحث: لا يجزي والد عن ولده.
ومن الممكن أن يعود كلا المعنيين إلى أصل واحد، لأن الثواب والعقاب يحلان محل العمل وينوبان عنه، وهما بمقداره أيضا - تأملوا ذلك -.
على كل حال، فإن كل إنسان في ذلك اليوم مشغول بنفسه، ومبتلى بمعطيات أعماله وآثارها إلى درجة أنه لا ينظر إلى أحد ولا يهتم به، حتى وإن كان أبوه، أو ابنه الذي كانت تربطه به أقرب الروابط، فلا يفكر أحد بآخر مطلقا.
وهذه الآية نظير ما ورد في بداية سورة الحج في الحديث حول القيامة والزلزلة: يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت.
ومما يستحق الانتباه أنه يعبر ب لا يجزي في مورد الأب، وهي صيغة المضارع، أما في شأن الابن فإنه يعبر باسم الفاعل (جاز) وهذا التفاوت في التعبير لعله من باب التنوع في الكلام، أو إشارة إلى واجب ومسؤولية الابن تجاه الأب، لأن اسم الفاعل يؤدي معنى الدوام والتكرار أكثر.
وبتعبير آخر، فإن المتوقع من العواطف الأبوية أن يتحمل الأب مقدارا من العذاب عن ابنه، كما كان في الدنيا يتحمل المصاعب والمشاكل في سبيله، لكن من