ثم الجملة التالية وهي قوله تعالى: (إن الله بالغ أمره) الطلاق - 3، يعلل إطلاق الصدر، وهذا المعنى قوله: (والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون) يوسف - 21. وهذه جملة مطلقة غير مقيدة بشئ البتة فلله سبحانه سبيل إلى كل حادث تعلقت به مشيته وإرادته وإن كانت السبل العادية والطرق المألوفة مقطوعة منتفية هناك.
وهذا يحتمل وجهين: أحدهما أن يتوسل تعالى إليه من غير سبب مادي وعلة طبيعية بل بمجرد الإرادة وحدها، وثانيهما أن يكون هناك سبب طبيعي مستور عن علمنا يحيط به الله سبحانه ويبلغ ما يريده من طريقه الا أن الجملة التالية من الآية المعللة لما قبلها أعني قوله تعالى، قد جعل الله لكل شئ قدرا، تدل على ثاني الوجهين فإنها تدل على أن كل شئ من المسببات أعم مما تقتضيه الأسباب العادية أو لا تقتضيه فان له قدرا قدره الله سبحانه عليه، وارتباطات مع غيره من الموجودات، واتصالات وجودية مع ما سواه، لله سبحانه أن يتوسل منها إليه وان كانت الأسباب العادية مقطوعة عنه غير مرتبطة به إلا أن هذه الاتصالات والارتباطات ليست مملوكة للأشياء أنفسها حتى تطيع في حال وتعصى في أخرى بل مجعولة بجعله تعالى مطيعة منقادة له.
فالآية تدل على أنه تعالى جعل بين الأشياء جميعها ارتباطات واتصالات له ان يبلغ إلى كل ما يريد من أي وجه شاء وليس هذا نفيا للعلية والسببية بين الأشياء بل إثبات أنها بيد الله سبحانه يحولها كيف شاء وأراد، ففي الوجود علية وارتباط حقيقي بين كل موجود وما تقدمه من الموجودات المنتظمة غير أنها ليست على ما نجده بين ظواهر الموجودات بحسب العادة (ولذلك نجد لفرضيات العلمية الموجودة قاصرة عن تعليل جميع الحوادث الوجودية) بل على ما يعلمه الله تعالى وينظمه.
وهذه الحقيقة هي التي تدل عليها آيات القدر كقوله تعالى: (وإن من شئ إلا عندنا خزائنه وما ننزله إلا بقدر معلوم) الحجر - 21، وقوله تعالى: (انا كل شئ خلقناه بقدر) القمر - 49، وقوله تعالى: (وخلق كل شئ فقدره تقديرا) الفرقان - 2، وقوله تعالى: (الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى) الاعلى - 3. وكذا قوله تعالى: (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن